ما زال الانقسام الشديد يخيّم على مشهد الاقتصاد المصري الحالي، بين متشائم يتوقع انهيار العملة المصرية في أي لحظة، بسبب اختلالات هيكلية في الاقتصاد، عولِجَت بمسكنات، دون تحقيق أي تنمية حقيقية، ومتفائل يرى في البلد العريق سويسرا الشرق، التي تمكنت من اجتياز كل العقبات التي وُضعت في طريق الصحوة الاقتصادية الكبرى، واقتربت من الانضمام إلى قائمة أكبر اقتصادات العالم.
يرى المتشائمون أن الدولار سيصل قريباً إلى سعر 80 جنيهاً في البنوك، وسيتجاوز 100 جنيه في السوق غير الرسمية، مستشهدين في ذلك بتراجع إيرادات مصر من قناة السويس، بسبب عزوف عدد كبير من الشاحنات عن المرور فيها خوفاً من التعرض لهجمات الحوثيين، وأيضاً انخفاض إيرادات السياحة، بسبب ارتفاع المخاطر الجيوسياسية في المنطقة، مع استمرار حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال في غزة، وفي أراضٍ أخرى، فلسطينية ولبنانية، ما أضر بصورة واضحة بحالة الاقتصاد المصري.
يقول هؤلاء إن الحكومة المصرية لم تستفد من الدرس القاسي الذي تعرضت له خلال العامين الماضيين، إذ ما زالت مستمرة في التوسع في الإنفاق البذخي الحكومي، تغدق الأموال على المشروعات الضخمة التي لا تدرّ عائداً، وتورط نفسها مرة أخرى في الاعتماد على الأموال الساخنة، بينما تغيب تماماً أي خطوات في طريق التنمية المستدامة، وزيادة الإنتاج، والتوسع في التصدير، لإصلاح هيكل الاقتصاد المصري.
الاقتصاد المصري وتجربة أليمة
أصيب المصريون بصدمة Trauma مما حدث لعملتهم اعتباراً من شهر مارس/ آذار 2022 حتى مارس 2024، حين فقد الجنيه خلال عامين أكثر من ثلثي قيمته، فانخفضت قيم أصولهم، وتراجعت القدرة الشرائية لدخولهم، وتعقدت معيشتهم، وأحبطت آمالهم في تحسن حال الاقتصاد المصري. وبالتزامن مع ذلك، ارتفعت أسعار أغلب السلع والخدمات في البلاد، حتى الأساسية منها، مثل الخبز والأرز والسكر، وأيضاً وقود السيارات والغاز والكهرباء.
وزاد من صدمة المصريين ما يرونه حولهم من انهيار في قيم العملات المحلية، كما حدث في كلّ من ليبيا والسودان ولبنان وسورية وإيران والعراق، الأمر الذي قد يفسر التخوفات الموجودة لدى البعض، وعلو نبرة التشاؤم بين الأفراد، سواء كانوا من المنتمين إلى الطبقتين الدنيا والمتوسطة، أو أولئك الذين تمكنوا من الالتحاق بمجتمع رجال الأعمال، والذين تجرعوا بدورهم مرارة التراجع الكبير في سعر الجنيه أمام الدولار، على مدار عامين، قبل أن تأتي صفقة الإنقاذ من الإمارات، المعروفة باسم "رأس الحكمة" في فبراير/شباط 2024، لتنتشل البلاد من الإفلاس، إلى حين.
وعلى الجانب الآخر، يرى المتفائلون من أعضاء الحكومة المصرية وصندوق النقد أن مصر تمضي قدماً في طريقها لتحقيق نجاحات في برنامج إصلاح الاقتصاد المصري المقرر، رغم التحديات الكبيرة التي تشهدها مختلف اقتصادات المنطقة. ويوم الأحد الماضي، قال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إن "شراكة مصر مع صندوق النقد تدار بإيجابية، بما يدعم جهود الحكومة في التغلب على الكثير من التحديات التي واجهتها خلال الفترة الماضية". وأكد مدبولي أن الأزمات المتلاحقة كان لها تأثير مباشر في الاقتصاد المصري، مشيراً إلى أن حكومته استطاعت أن تعبر باقتصادها إلى منطقة آمنة "حيث أقامت اقتصاداً قوياً ومرناً، قادراً على مجابهة الصدمات". وشدد مدبولي على "استمرار التزام الحكومة تطبيق سعر صرف مرن للجنيه مقابل الدولار، بالتنسيق مع البنك المركزي" في إطار "الحفاظ على المكتسبات التي تحققت، وعدم العودة إلى المربع صفر" على حد قوله.
وأظهرت كريستالينا غورغييفا، مديرة صندوق النقد الدولي، قدراً مماثلاً من التفاؤل، إذ أشارت إلى أن "تراجع معدل تراكم الدين في مصر يعني أنها باتت أكثر أماناً، في عالم يموج بالصدمات الاقتصادية"، مشددة على "أهمية خطوات الحكومة الهادفة إلى تحقيق استقرار أكبر للاقتصاد الكلي، وخفض نسبة التضخم". وتوقعت غورغييفا "ارتفاع معدل النمو في مصر إلى 4.2% في العام المقبل، وتراجع التضخم من معدلاته الحالية، القريبة من 25%، إلى نسبة 17% في نهاية العام المالي الجاري"، ولا سيما أن هذا الأمر مهم للجميع، خصوصاً الفقراء والطبقة المتوسطة في البلاد، كما تقول غورغييفا.
وقد يكون لمدبولي وغورغييفا بعض الحق في ما يتعلق بالظروف غير المواتية التي تمر بها المنطقة، وأيضاً في إلقاء الضوء على المؤشرات الإيجابية التي تحققت، من تراجع الدين الخارجي بنحو 15 مليار دولار، ووصول احتياطي النقد الأجنبي إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، مع استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه حول مستوى 49 جنيهاً للدولار، على مدار ما يقارب ثمانية أشهر.
ومع ذلك، يتعين على الحكومة ألا تتجاهل أن أياً من ذلك ما كان ليحدث لولا صفقة الإنقاذ الإماراتية، التي ألقت في حَجْر الحكومة خمسة وثلاثين مليار دولار، لم تستخدم حتى الآن في الغرض الذي كانت موجهة إليه، وهو مشروع تطوير منطقة رأس الحكمة.
المبالغة في التشاؤم والإفراط في التفاؤل مكروهان في الظرف الحالي للاقتصاد المصري، وينبغي للمهتمين التمسك بالحقائق، بلا تزييف ولا تزيين. وخلال الأربع والعشرين ساعة التي سبقت كتابة هذا المقال، نشرت وسائل الإعلام خبرين مهمين، تحدث أولهما عن استيراد مصر 420 ألف كتكوت من الخارج، بهدف زيادة المعروض من البيض وتحقيق الاستقرار في سعره، على الرغم من المحاولات المبذولة في كل اتجاه لتقليل الاستيراد، وتقليل الضغوط على العملة المصرية.
أما الخبر الثاني، فكان يتحدث، لأول مرة على حد علمي، عن "ممثل الصندوق المقيم" في مصر، واسمه أليكس سيغورا، في وضع أشبه ما يكون بحالة المندوب السامي البريطاني، وقت الاحتلال البريطاني لمصر، الذي كان لديه صلاحيات التدخل في القرارات الحكومية المصرية وتوجيهها وفقًا للمصالح البريطانية، وكان يملك صلاحية إقالة المسؤولين المصريين أو تعيينهم، وكان يشرف أيضاً على قناة السويس، التي كانت تعتبر شريانًا حيويًا للتجارة العالمية والإمبراطورية البريطانية! وبعيداً عن التفاؤل والتشاؤم، فهل نطمع نحن المصريين في سماع تفسير حكومي لهذين الخبرين؟ أم أن لا حياة لمن ننادي؟