مرة أخرى، يجد البنك المركزي المصري نفسه في موقفٍ لا يحسد عليه، حيث تجتمع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، التابعة لبنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي هذا الأسبوع، وتعكس أسواق العقود الآجلة والمستقبلية احتمال رفع الفائدة خمسين نقطة أساس، تعادل نصف بالمائة، وربما أكثر، الأمر الذي يمثل ضغطاً إضافياً على الحساب الجاري المصري، نظراً لاعتماده الشديد على الأموال الساخنة خلال السنوات الخمس الأخيرة في سد جزء لا يستهان به من عجزه، بينما شهدت الشهور الأخيرة نزوحاً جماعياً لتلك الأموال مع ارتفاع عوائد السندات الأميركية. ويوم الجمعة الماضي، أصدر مكتب إحصاءات العمل، التابع لوزارة العمل الأميركية، أحدث تقاريره عن مؤشر أسعار المستهلكين، والذي أظهر ارتفاع الأسعار خلال شهر مايو/ أيار الماضي بنسبة 8.6% مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، رغم أن التوقعات لم تتجاوز 8.3%.ومع استمرار أسعار الطاقة في الارتفاع عالمياً وفي الولايات المتحدة، لا يبدو البنك الفيدرالي قادراً على الاكتفاء برفع الفائدة كما كان مخططاً من قبل، حيث أصبح إجراء رفع إضافي بنصف بالمائة أيضاً خلال شهر سبتمبر/ ايلول القادم حتمياً.
وفي السادس عشر من شهر مارس/ آذار الماضي، رفع الفيدرالي الأميركي الفائدة على أمواله بنسبة ربع بالمائة، فعقد البنك المركزي المصري اجتماعاً استثنائياً، قرر فيه رفع الفائدة الأساسية على الجنيه المصري بنسبة 1%، وحث ذراعيه في السوق، البنك الأهلي المصري وبنك مصر، على إصدار شهادات بفائدة 18%، رغم أن أعلى فائدة كان يتم دفعها في السوق المصرية لم يتجاوز 13%.
وحاول البنك المركزي المصري بتلك القرارات إيقاف خروج الأموال الساخنة من سوق الأذون والسندات المصرية، ومنع توجه مدخرات المصريين نحو الدولرة.
ومرة أخرى، وبعد أيام قليلة من رفع البنك الفيدرالي الفائدة على أمواله نصف بالمائة في الأسبوع الأول من شهر مايو/ أيار الماضي، قرر المركزي المصري في اجتماعه في التاسع عشر من الشهر نفسه رفع الفائدة على أمواله بنسبة 2%، رغم المبالغ الضخمة التي نجحت شهادات الثمانية عشر بالمائة في جمعها، في وقت اقترب فيه رصيد الأموال الساخنة المستثمرة في أدوات الدين بالجنيه المصري من الصفر.
يقول المركزي المصري إن رفع الفائدة على الجنيه يساهم في كبح جماح التضخم، على الرغم من أن أغلب التحليلات أكدت أن التضخم المصري مستورد، وناتج عن ارتفاع الأسعار العالمية للطاقة والغذاء وتكاليف الشحن والتأمين، بالإضافة إلى انخفاض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار بأكثر من 18% خلال الشهرين اللذين سبقا اتخاذ القرار.
والشهر الماضي، واصل التضخم في مصر ارتفاعه للشهر السادس على التوالي، مسجلاً 15.3%، هي الأعلى في أكثر من ثلاث سنوات، وأرجع خبراء البنك المركزي الارتفاع المستمر للتضخم إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي أثرت على أسعار السلع الأساسية عالمياً، ما انعكس بالسلب على أسعار السلع في مصر، أي أنهم يدركون أن التضخم مستورد، ومع ذلك يستمرون في رفع الفائدة على العملة المحلية!
لا يكلف الصندوق نفسه عناء التحاور مع مسؤولي البنوك المركزية في تلك الدول، وإنما يكتفي بمطالبتهم باتباع سياسة نقدية مرنة، فتقوم تلك البنوك على الفور برفع الفائدة على عملتها.
لا يستفيد أحد من رفع الفائدة إلا أصحاب الأموال الساخنة من الأجانب، حيث يضيع أي أثر إيجابي لرفع الفائدة على أموال المودعين المصريين بسبب ما تتحمله الموازنة العامة للدولة من كلفة ارتفاع الفائدة على الدين العام بالعملة المحلية، وهو ما يأتي على حساب الإنفاق الحكومي على الخدمات الأخرى التي يفترض أن تقدمها الدولة للمواطنين، وأيضاً بسبب ارتفاع كلفة اقتراض الشركات، الذي ينعكس في ارتفاع أسعار منتجاتها وخدماتها المقدمة للمواطنين.
تفرح صناديق الاستثمار الأجنبية التي تأتي منها الأموال الساخنة بالفائدة المرتفعة في البلدان النامية والأسواق الناشئة، لا سيما إذا كانت حكومات تلك الدول تدعم عملاتها أمام العملات الأجنبية، وهو ما يضمن لهذه الصناديق الحصول على فارق فائدة بين العملات المحلية والدولار الأميركي يتجاوز عشرة بالمائة في أغلب الأحيان، يضاف إليها أي تحسن إضافي في قيمة الجنيه، تفرضه الأسواق أو تُنعم به البنوك المركزية في تلك الدول على الصناديق.
ويسعد صندوق النقد الدولي بالأسواق الناشئة والنامية، وخاصة من الحاصلين على قروضه، حين ترفع الفائدة على عملاتها، حيث يعتبر ذلك دعماً إضافياً للعملات المحلية، وعنصر جذب للاستثمارات الأجنبية، حتى لو كان على حساب ميزانيات تلك الدول، وإنفاق حكوماتها الاستثماري والاجتماعي.
لا يكلف الصندوق نفسه عناء التحاور مع مسؤولي البنوك المركزية في تلك الدول، وإنما يكتفي بمطالبتهم باتباع سياسة نقدية مرنة، فتقوم تلك البنوك على الفور برفع الفائدة على عملتها.
وتؤيد وسائل الإعلام الغربية، في أغلب الأحيان، رفع الفائدة في الأسواق الناشئة والنامية، لتساعد صناديق الاستثمار في بلادها على التربح من تجارة الفائدة.
وقبل يومين، نشرت وكالة بلومبيرغ تقريراً عن التضخم في مصر، أكدت خلاله أن الفائدة الحقيقية على الجنيه المصري حالياً تحولت إلى فائدة سالبة، بعد تجاوز معدل التضخم معدل الفائدة المعلن، ملمحة إلى ضرورة رفع الفائدة على الجنيه عند اجتماع البنك المركزي في الثالث والعشرين من الشهر الحالي.
لن يقضي رفع الفائدة على التضخم في الاقتصاد المصري، ولن يحد منه، ولكنه سيتسبب بالتأكيد في ارتفاع نسبة ما يوجه لخدمة الدين من إجمالي الإنفاق الحكومي، وفي تراجع الاستثمار المحلي، وفي ارتفاع كلفة اقتراض الشركات، وأيضاً في ارتفاع كلفة اقتراض المواطنين لشراء العقارات والسيارات، أو القروض النقدية، وهو ما يتسبب في كثير من الأحيان في تباطؤ الاقتصاد، وربما الوقوع في مصيدة الركود.
مرة أخرى، لن يخدم رفع الفائدة في مصر إلا الأموال الساخنة، ولن تقضي على التضخم الحالي إلا زيادة الإنتاج المحلي، وتقليل الاعتماد على الخارج، وضبط الميزان التجاري والحساب الجاري، وترتيب أولويات إنفاق العملة الأجنبية المحدودة ليكون على رأسها ما يحتاجه المواطن، ويعجز الوطن عن توفيره، لا ما ينقذ ماء وجه الحكومة، أو يرضي المؤسسات الدولية وصناديق الاستثمار الأجنبية.