مع انتشار فيروس كوفيد-19، خلال النصف الأول من عام 2020، وتنامي توقعات إحداثه تأثيرات شديدة السلبية على مختلف الاقتصادات، بما فيها الاقتصاد الأميركي، شمر بنك الاحتياط الفيدرالي عن ساعديه، وأعلن استعداده لاستخدام "بازوكا" مالية نقدية، لإنقاذ اقتصادات العالم وشعوبه.
والـ"بازوكا" هي مصطلح عسكري يشير إلى قاذفة صواريخ محمولة، قادرة على إطلاق مقذوفات متفجرة. وفي استخدامه المُستعار في المجال المالي، يعبر المصطلح عن فكرة تدخل كبير، عادة من قبل البنوك المركزية أو الحكومات، باستخدام كافة أوراق السياسة النقدية والمالية المتاحة، لمواجهة أزمة ضخمة، يمكن أن تكون لها آثار كارثية، إن لم يتم التعامل معها بصورة حاسمة.
أعلن الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي الأميركي) وقتها عن تنفيذ تدابير ضخمة وغير مسبوقة لتخفيف التأثير الاقتصادي للجائحة، وتجنب انهيار أسواق المال.
شملت "بازوكا" البنك الفيدرالي إجراءات، كان في مقدمتها خفض أسعار الفائدة. لم ينتظر البنك الفيدرالي وقتها موعد اجتماعه التقليدي، يوم الأربعاء، وإنما خرج ليعلن عن تخفيض الفائدة بمقدار خمسين نقطة أساس (نصف بالمائة)، وصولا إلى نطاق 1.25% - 1%، مساء يوم الأحد، وفي وقت كانت كل أسواق العالم تقريباً مغلقة.
ولإحداث التأثير المطلوب في الأسواق، أطلق البنك الفيدرالي برامج شراء الأصول واسعة النطاق، التي تُعرف بالتيسير الكمي، واستحدث أدوات إقراض لدعم مختلف قطاعات الاقتصاد، وعمد إلى توفير التمويل الطارئ للمؤسسات المالية. وفر البنك الفيدرالي، من خلال المؤسسات المالية، القروض الميسرة للشركات الصغيرة، وصرفت الحكومة شيكات الإعانة للمواطنين، ودفعت إعانات بطالة شديدة السخاء للملايين من المقيمين في الولايات المتحدة ممن فقدوا وظائفهم.
نصح البنك الفيدرالي البنوك المركزية الكبرى باتباع سياساته لضمان سلامة النظام المالي العالمي. ولم تتوقف بازوكا البنك الفيدرالي حتى كانت تأثيرات الجائحة السلبية، في مختلف الاتجاهات، تحت السيطرة.
عادت الـ"بازوكا" إلى الأذهان هذه الأيام، مع استعداد البنك المركزي المصري للإعلان عن التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، بخصوص حصول القاهرة على قرض جديد، بخلاف قرض الثلاثة مليارات دولار الذي تم الاتفاق عليه في ديسمبر/كانون الأول.
وسيكون الإعلان عن التوصل للاتفاق بمثابة إعلان عن موافقة السلطات المصرية على إجراء تخفيض جديد، أو تعويم، أو تعويم مدار، للجنيه، باعتباره الشرط الأساسي الذي يرى الصندوق استحالة نجاح ما اصطلح على تسميته (كذباً) ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، دون تطبيقه.
ويدرك المسؤولون في مصر أن اتخاذ هذه الخطوة يمكن أن يلقي بطوق نجاة (لبعض الوقت) للاقتصاد والمواطن المصريين حال نجاحها، بينما يمكن أن يأخذنا جميعاً إلى لبنان، حيث تعقدت أزمة العملة اللبنانية، بعد فقدانها أكثر من 98% من قيمتها في السوق غير الرسمية. ولذلك، تشير أغلب التوقعات إلى أن البنك المركزي والحكومة المصريين يسعيان حالياً لتحضير "بازوكا"، يمكن لها أن توفر بعض الحماية للجنيه، عند تعويمه.
يسعى البنك المركزي أولاً لتجهيز "بضعة مليارات" من الدولارات لمقابلة الطلبات المعلقة من التجار، الراغبين في الإفراج عن بضائعهم المحجوزة في الموانئ، في انتظار تدبير العملة الأجنبية. وفي أحدث تقديرات صادرة عن مؤسسات مالية موثوق بها، لا يقل هذا المبلغ عن 5 مليارات دولار، ويصل في بعض الأحيان إلى 8 مليارات، إن أردنا شل حركة السوق الموازية.
وفسر بعض المتابعين لحركة سعر الدولار الجنونية في السوق المصرية، على مدار الأسابيع الثلاثة التي سبقت الأسبوع الجاري، الارتفاع الكبير في السعر بوجود "مشتر مفتر"، لا يتوقف عن الشراء، رغم ارتفاع السعر، حتى يُتم المبلغ الذي يريد شراءه. وتوقع هؤلاء أن تكون قدرة "المشتري المفتري" على توفير الجنيه الذي يشتري به راجعة إلى امتلاكه مطبعة للجنيه المصري!
ويسعى المركزي المصري أيضاً لتوفير كمية ضخمة من الدولارات لسداد أقساط الديون والفائدة المستحقة العام الحالي، والمقدرة بنحو 42 مليار دولار خلال العام الجاري، منها نحو 6.7 مليارات مستحقة لصندوق النقد عن قروض سابقة.
ومع افتراض أن نسبة تتراوح بين 30% و40% من هذه المبالغ ستكون مستحقة للدول الخليجية، بما يعني أنها ستجدد وفقاً للاتفاق مع تلك الدول (حتى عام 2026)، يتبقى مبلغ لا بأس به، يتعين علينا تدبيره، وهو ما قد يدفع الحكومة المصرية للتخلي عن "رأس الحكمة" في الساحل الشمالي الغربي لمصر، كما جرى الترويج للخبر، خلال الأيام الماضية.
وللأسف، لن تكون "رأس الحكمة" وحدها، وإنما ستفرض الـ"بازوكا" الإعلان عن إتمام الاتفاق على بيع حصة الحكومة في "مجموعة" من الشركات المصرية، من بين أكثر من ثلاثين شركة أعلنت مصر نيتها التخارج منها، وأتصور أن الدول الخليجية تترقب الخفض القادم للعملة المصرية، كي تنقض على الشركات المصرية الناجحة لشرائها، كما فعلت من قبل مع كل موجة تخفيض للجنيه.
وسيبذل البنك المركزي جهداً بالتأكيد لاستقطاب الأموال الساخنة من جديد، باعتبارها صاحبة القدرة والفرصة الفضلى لدعم الجنيه مع التعويم المرتقب. وستجد صناديق الاستثمار وصناديق التحوط، في دول الخليج وخارجها، فرصة رائعة لتحويل دولاراتها بسعر 40 – 45 جنيها للدولار (أرقام افتراضية) بعد التعويم، ثم شراء أذون الخزانة بعائد يتجاوز 30% معفى من الضرائب، بعد أن كانت تبيع دولاراتها بـ 16 جنيهاً، ولا تتجاوز الفائدة 15%، قبل الأزمة مباشرة.
ورغم رفعه أسعار الفائدة الأسبوع الماضي 2%، لا تبدو مهمة البنك المركزي في دعم الجنيه انتهت. ويرى البعض أن الدعم المطلوب من أسعار الفائدة لن يتحقق إلا برفع الفائدة 5%، بخلاف ما تم رفعه من قبل.
هذه هي الـ"بازوكا" التي سيسعى المركزي للتزود بها قبل إعلان التعويم، وربما تنجح في الدفاع عن العملة المصرية لبعض الوقت، وتتسبب في زيادة ثقة المصريين قبل الأجانب في الجنيه، في الطريق لعام آخر من الاستقرار (الظاهري)، قبل أن تهب الرياح العاصفة مرة أخرى، حال استمرار سياسات الإنفاق البذخي، اعتماداً على القروض.