تُعد الأرجنتين من النماذج التي يجب أن تضعها أي حكومة نصب عينيها عندما تفكر في الاقتراب من صندوق النقد الدولي والخضوع لبرامجه المدمرة ونصائحه السامة، وتعد كذلك درسا قاسيا لأي دولة تتوسع في الاقتراض الخارجي وتعتمد على الخارج في معالجة أزماتها الاقتصادية والمالية وعجز الموازنة والدفاع عن عملتها الوطنية.
قبل سنوات طويلة كانت الأرجنتين تصنف على أنها ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، ورابع أكبر اقتصاد في نصف الأرض الجنوبي، ومن البلدان الغنية بالموارد الطبيعية.
لكن مع الإغراق في الديون والاستدانة الكثيفة تحولت إلى دولة مدينة بائسة اقتصاديا، تعرضت للإفلاس والتعثر المالي عدة مرات، دولة ذات ديون قياسية واقتصاد متهاو ومواطن تعس، وأسواق لا تعرف سوى القفزات اليومية.
وبعد أن كانت البلاد تمتلك إمكانات اقتصادية ضخمة ومتنوعة، وسكانا على درجة عالية من التعلم، وقطاعا زراعيا ثريا ذا وجهة تصديرية، وقاعدة صناعية متطورة، باتت موارد وإيرادات الدولة توجه لسداد أعباء الديون الخارجية، وليتها تكفي.
بل دخلت الأرجنتين في دوامات عنيفة من العجز المالي والتعثر، تقترض لسداد أعباء ديون مستحقة، وتدخل في مفاوضات متواصلة مع الدائنين الدوليين بشأن قرض جديد يصاحبها انهيار في عملة البيزو وتهاو في القدرة الشرائية للمواطن بسبب الغلاء الفاحش، مع تعمق ظاهرة "دولرة الاقتصاد" وتخلي المدخرين عن العملة المحلية.
خلال الأيام القليلة الماضية شهدت الأرجنتين، أكبر مدين لصندوق النقد الدولي في العالم، تطورات خطيرة، فقد طلب الصندوق من الحكومة خفض سعر صرف البيزو أمام الدولار بنسبة 100% مرة واحدة، قبل التوصل لاتفاق معه بخصوص الحصول على شرائح قروض جديدة.
علما بأن العملة فقدت بالفعل نحو 50% من قيمتها منذ بداية هذا العام، ما رشحها لأن تكون أسوأ العملات أداءً في الأسواق الناشئة، كما انخفضت بنسبة 60% في السوق الموازي.
دخلت الأرجنتين في دوامات عنيفة من العجز المالي والتعثر، تقترض لسداد أعباء ديون مستحقة، وتدخل في مفاوضات متواصلة مع الدائنين الدوليين بشأن قرض جديد
صاحب طلب الصندوق خفض البيزو ارتفاع جنوني في معدل التضخم السنوي في الأرجنتين الذي قفز إلى 124.4% في أغسطس الماضي، وهو أعلى مستوياته منذ عام 1991، وهو معدل يفوق زيادة الأجور.
وفي حال استجابة الحكومة لمطالب الصندوق بخفص البيزو فإن التضخم سيواصل قفزاته، وهو ما يعني دخول البلاد وأسواقها في فوضى سعرية، تصاحبها قفزات في كلفة المعيشة.
كما تشهد الأسواق شحاً شديداً في العملات الأجنبية خاصة الدولار، وهناك توقعات قوية بدخول الاقتصاد في حالة كساد مزمن مع تسجيل معدلات نمو أقل من التوقعات خلال العام الجاري.
ومع تفاقم الأزمة لا ترى الحكومة الحالية حلا سوى الدخول في مفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي الذي توصلت معه نهاية يوليو إلى اتفاق مبدئي يتعلق بشروط سداد ديون مستحقة بقيمة 44 مليار دولار.
وفي بداية العام 2022 توصل الصندوق والأرجنتين، إلى اتفاق لإعادة جدولة ديون ضخمة بقيمة 44 مليار دولار، والمتبقية من قرض بقيمة 57 مليار دولار حصلت عليه البلاد في 2018 في عهد الرئيس ماوريسيو ماكري، وهو أكبر قرض تمنحه المؤسسة.
ومع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية المقررة في أكتوبر المقبل، يبدو المشهد الاقتصادي معقدا حيث تواجه البلاد عدة أزمات اقتصادية: فقدان الثقة في البيزو، صعود قياسي للتضخم، تعثر الاقتصاد بسبب الجفاف الذي ضرب الزراعة، ضخامة الديون المستحق سدادها للصندوق.
وهنا يبقى السؤال: هل تفرز الانتخابات المقبلة نظاما سياسيا جديدا يؤمن بالاستقلال الاقتصادي ويرفض التبعية للصندوق والدائنين الدوليين ويعمل على تطبيق إصلاحات جذرية توقف نزيف موارد الدولة، نظاما يرى أن الأمور لم تخرج عن السيطرة وليست ميؤوساً منها كما يروج الصندوق والدائنين، أم تبقي نتائج الانتخابات الوضع السياسي على ما هو عليه، وبالتالي تظل البلاد في دوامة مالية متواصلة وارتهان للصندوق والدائنين؟