مع تكرار تعثر مفاوضات الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، حول حزمة إنقاذ جديدة، تساعد على إنعاش الاقتصاد الأميركي وتنتشل الملايين ممن فقدوا وظائفهم من براثن الفقر والجوع، ما أجبرهم على طلب المساعدات من الأهل والأقارب والانتظار في طوابير طويلة من أجل الحصول على الوجبات المجانية، تعلقت الأنظار ببنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) واجتماعاته المنعقدة يومي الثلاثاء والأربعاء من هذا الأسبوع، أملاً في قيام البنك المركزي الأكثر تأثيراً في العالم بما لم تقم به السياسة المالية حتى الآن.
وفي دراسة صدرت قبل عدة أسابيع وأعدتها جامعة كولومبيا، جاء أنه رغم الإعانات التي قدمتها الحكومة الأميركية للمواطنين، وتعويضات البطالة الاستثنائية التي تم صرفها خلال الفترة الماضية، والتوسع في تقديم الخدمات المجانية، وإمهال المستأجرين غير القادرين على دفع إيجارات المنازل لفترات ممتدة دون الخوف من التعرض للطرد، ارتفع عدد الأميركيين الواقعين تحت خط الفقر إلى 55 مليون مواطن، بزيادة 8 ملايين شخص عن شهر مايو/أيار الماضي.
وفي حين لم تأخذ الدراسة الإضافات التي تمت خلال الشهرين الماضيين على الأقل، تشير التقديرات إلى أن هذا العدد ربما يكون أكثر من ذلك في الوقت الحالي، بعد أن انتهت أغلب برامج الإعانات الاستثنائية التي أقرتها الحكومة الأميركية ولم يتم تجديدها، في وقتٍ تجاوز فيه عدد من ماتوا متأثرين بالإصابة بالوباء (نحو 300 ألف) عدد ضحايا الولايات المتحدة في أرض المعركة في الحرب العالمية الثانية " 1939-1945"، وأصيب به أكثر من 16 مليون أميركي غيرهم، منهم أكثر من مائة ألف في المستشفيات الأميركية وقت كتابة هذه السطور.
لا ينتظر المواطن الأميركي الذي فقد وظيفته ودخله من البنك الفيدرالي تعويضات بطالة أو مساعدات ووجبات مجانية، وإنما ينتظر منه أن يكمل الدور الذي بدأه قبل تسعة أشهر، رغم إعلان رئيسه جيروم باول في العديد من المناسبات أن الأدوات المتاحة للبنك قاربت على النفاد.
وعلى الأرجح سيكون البنك الفيدرالي، وقت قراءتك هذه السطور، قد قرر مد آجال برامج التيسير الكمي التي تبناها، وأعلن استمراره في شراء سندات الحكومة الأميركية، كما المليارات من سندات الشركات، من السوق الثانوية، مؤكداً استمرار معدلات الفائدة عند مستوياتها الصفرية الحالية لفترة غير قصيرة.
ولا يمكن النظر إلى ما يفعله البنك الفيدرالي بمعزل عما قامت به الإدارة الأميركية المنتهية فترتها خلال ما يقرب من شهر، أو ما ستقوم به الإدارة الجديدة تحت قيادة الرئيس المنتخب جوزيف بايدن.
وفي حين تسببت الإدارة الأميركية الحالية، بما اتبعته من برامج للتخفيف من تبعات الجائحة، في تجاوز عجز الموازنة الأميركية 3 تريليونات دولار، ليصل حجم الدين العام إلى أكثر من 27 تريليون دولار للمرة الأولى في التاريخ الأميركي، بما يعادل ما يقرب من 120% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، لا يبدو أن الأمر يقلق الكثيرين، حتى هذه اللحظة.
أجمع الاقتصاديون، من مختلف المدارس والتوجهات الفكرية على أن ارتفاع العجز وزيادة الدين، بل وطباعة النقود في بعض الأحيان، خلال الفترة الحالية لن يكون مضراً، وبنى أغلبهم ذلك التوجه على ثقة، ربما يكون مبالغ فيها، في استمرار معدلات التضخم في الولايات المتحدة وأغلب الاقتصادات الكبرى عند مستوياته شديدة الانخفاض، إلا أن الأمر ربما لا يكون بهذه البساطة.
لم تتسبب سيولة النقود التي تدفقت إلى أسواق العالم في رفع معدلات التضخم لأنها جاءت في وقت طُلب فيه من الملايين البقاء في منازلهم، والامتناع عن ركوب الطائرات والسفر وزيارة الفنادق إلا للضرورة القصوى.
أغلقت المحال أبوابها واستقبلت المطاعم والمقاهي والبارات أقل من نصف طاقاتها الاستيعابية، وتقلصت شهية شراء الملابس والسيارات والكماليات بعد أن اضطر الملايين للعمل من منازلهم.
انخفضت إيرادات محلات تنظيف الملابس ومراكز التجميل ومحلات تصفيف الشعر وطلاء الأظافر، وتراجع الطلب على خدمات تصور البعض ألا يطاولها أي تأثير سلبي رغم تغير نمط استهلاك الملايين قبل ظهور الوباء. حدث كل ذلك قبل ظهور اللقاح، فلم يرتفع معدل التضخم، لكن الأسبوع الجاري وصلت أول شحنة منه إلى المستهلك الأميركي، واقترب المتاح منه في الأسواق من مليار جرعة من الشركات المختلفة. فهل يُتوقع أن تستمر العوامل التي منعت التضخم من الارتفاع خلال الفترة الماضية؟
مع مرور الوقت، ستزداد ثقة المواطنين في اللقاح الجديد، وسيزداد عدد من هم على استعداد للحصول عليه، وهو ما سيترتب عليه الإسراع بعودة الملايين إلى الخروج والذهاب إلى أعمالهم واستئناف ممارساتهم الاستهلاكية المعتادة.
ومع الأخذ في الاعتبار أن الأغنياء تراكمت ثرواتهم بصورة واضحة خلال الشهور القليلة الماضية، بسبب الارتفاع الجنوني في أسعار الأسهم في البورصات الأميركية الذي تسبب في زيادة ثرواتهم بأكثر من تريليون دولار، وأن الفقراء يستعدون لاستقبال ما ستقدمه لهم الإدارة الجديدة من مساعدات نقدية مباشرة وغير مباشرة، ستكون النتيجة ارتفاعاً غير مسبوق في رغبات الشراء، ربما لا تكون الأسواق مستعدة لاستيعابها، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاع الأسعار، بصورة لا يمكن تصورها في الوقت الحالي.
قبل فترة أعلن البنك الفيدرالي تخليه عن استهدافه 2% معدلاً مثالياً للتضخم، فيما اعتبره البعض نوعا من المرونة سيتعامل بها البنك مع التضخم عند تجاوزه هذا المعدل، وهو ما يعني أننا ربما نشهد ارتفاعاً "مرغوباً فيه" في هذا المعدل سيراه البعض الإشارة الأهم لاستعادة الاقتصاد الأميركي والعالمي تعافيه في مرحلة ما بعد كوفيد.
لكن المشكلة الكبرى ستكون في التريليونات التي سيضطر البنك الفيدرالي، كما البنوك المركزية الكبرى، للاستمرار في اقتراضها، وأغلبها قصيرة الأجل أو ذات عائد متغير، وهو ما يجعلها شديدة الحساسية لأي تغير في معدلات الفائدة. فهل يخرج الاقتصاد الأميركي، وغيره، من حفرة كوفيد ليقع في بئر التضخم، التي لم يعتد على تحملها المواطن الغربي، مع ما يمثله ذلك من أعباء إضافية على موازنات الدول؟