يعمل الاقتصادي الهندي روشير شارما (Ruchir Sharma) مديراً لاستثمارات تفوق عشرين مليار دولار في بنك الاستثمار الأميركي "مورغان- ستانلي"، وهو الآن المخطط الاستراتيجي لهذه الشركة المالية العملاقة.
وقد وضع هذا الاقتصادي من ولاية راجستان كتبا رائجة، خصوصا في الهند، وبنى سمعته على أنه اقتصادي يجرؤ على مخالفة الآراء السائدة ويتحدّاها، بل ينتقدها.
وقد أصدر حديثاً كتابه "القواعد العشر للأمم الناجحة"، (Ten Rules of Successful Nations)، ويلخص فيه أفكاره التي وضعها في كتبه السابقة، وانتقد فيها مؤسسات اقتصادية تتنبأ بأن الصين تسير نحو تحقيق معدلات نمو خارقة، وسوف تحتل قريباً المركز الأول عالمياً.
وفاجأ المستبشرين من الأميركيين بقوله إن هناك علامات تشقق في الإنجاز الاقتصادي الأميركي. وفي كتابه "الأمم المنطلقة للنمو"، وهذه ترجمتي لعنوان كتابه "The Breakaway Nations"، ناقش أن الدول التي حققت نجاحات باهرة، مثل اليابان وسنغافورة وكوريا وغيرها، ربما لن تستطيع الاستمرار في النمو بوتيرة عالية.
وقال إن مقومات الانطلاق، بعد تحقيق معدلات نمو عالية سنواتٍ قد تصل إلى عشر أو أكثر، لا بد أن تصل إلى نقطةٍ يصبح عندها النمو العالي غير ممكن، لأن هذا التواصل في النمو يتطلّب مؤهلاتٍ خاصة، تتفاوت بين دولة وأخرى.
وعندما راجع الأدبيات التي تتنبأ بتغير النظام الاقتصادي العالمي، بعد إنشاء منظمة "BRIC" أو البريكس، أو البرازيل وروسيا والهند والصين (وأغفل جنوب أفريقيا)، قال إنه لا يجوز التعميم على هذه الدول كمجموعة، بل لا بد من دراستها واحدةً واحدة.
وقال إن الصين لن تستمر في تحقيق معدلات نمو عالية (وهذا ظاهر في السنتين الأخيرتين)، وإذا تراجع النمو في الصين، فإن الدول التي كانت تصدّر المواد الخام إلى الصين ستعاني أيضاً، وخصوصا البرازيل ثم روسيا، والدول النفطية.
وقد أثار رأيه جدلاً كبيراً في بلده الهند، عندما قال إن فرصة الهند في الانطلاق وكسر القاعدة لا تزيد عن 50% فرصة نجاح، والباقي احتمالية الفشل. وقد أورد هذه المعلومات في كتابه "صعود الأمم وسقوطها" (The Rise and Fall of Nations).
ولذلك جاء بعد ذلك كتابه، أخيرا، "القواعد العشر لنجاح الأمم"، ليلخصها في أمورٍ لا تستطيع النماذج الرقمية أن تقيسها أو تأخذها بعين الاعتبار. وقال إن الأرقام وحدها لا تكفي للتنبؤ بمصائر الأمم، بل لا بد أن نأخذ في الاعتبار قضايا أكثر عمقاً، وأقرب إلى توصيف المجتمعات. ويقول إن بناء الثروة أمر مهم في هذا السياق، ويجب أن يكون هذا المقياس دلالة واضحة.
والأمر الثاني هو الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، ومفهوم توزيع الثروة بمفهوم أكثر عدالةً، حتى ولو كان أقرب إلى الاشتراكية. وفي صدد تقييمه الهند، أكد أنها تسير تدريجياً نحو تخفيف مفهوم التخطيط المركزي لكل ولايات الهند، وقد بدأت الأمور هنالك تأخذ منعطفاً جديداً حين صارت الولايات وحكوماتها الاقليمية تتولى بالتنافس مهمة النهوض باقتصاد الولاية.
وفسّر للقراء لماذا تفوّقت ولايات هندية على ولايات أخرى، مدركاً أن حسن إعداد القوى العاملة، وحسن توزيع الدخل والثروة، والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان هي العناصر المحدثة للفرق والتباين في معدلات النمو المضطردة وغير المؤقتة.
وبالنسبة للولايات المتحدة، فقد شرح شارما، في مقابلة له مع فريد زكريا في برنامجه الأسبوعي GPS (Global Public Square) "الساحة العامة العالمية"، كيف أن الولايات المتحدة قد تراجع نصيبها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بشكل مطّرد في آخر مائة عام. وبدلاً من النمو الحقيقي، نما فيها البعد المالي والأرصدة المالية.
وصارت الولايات المتحدة مسيطرة مالياً، ولكنها أضعف في الإنتاج الفعلي. وفي رأي شارما، المتخصص في الاستثمارات المالية، فإن استمرار هذا الحال في الولايات المتحدة سيجعلها عرضةً للتغيير السلبي. أجمل ما في كتابات هذا المؤلف، وكلها تصب في بعضها بعضا، أنه ضد التيار الفكري السائد، ويستفز عند قرائه روح التفكر والتأمل فيما يعدّ عند بعض المحللين مُسلّمات غير قابلة للنقاش.
ولعلنا نذكر مثلاً كبير اقتصاديي البنك الدولي الأسبق وأستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا والحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، جوزيف ستجلتز، والذي كتب مرات عديدة يشرح أن الاقتصاد الصيني قد فاق الاقتصاد الأميركي بمقياس القوة الشرائية، مخالفاً الرأي القائل إن الولايات المتحدة ما تزال تتصدّر الاقتصاد العالمي. ولكن الاقتصادي الهندي، روشير شارما، يذكّرنا بأن ذلك ربما كان صحيحاً قبل سنوات، عندما كانت الصين تحقّق معدلات نمو عالية.
ولكن الصين، في رأيه، غير مرشّحة للاستمرار بتحقيق تلك المعدلات بناء على القواعد العشر التي يطالب بوجودها داخل الدولة، والتي يرى أن معظمها غير متوفر في الصين حالياً. وقد يتفق المرء مع تنبؤات شارما الذي لا يحب المنجّمين والمتنبئين الاقتصاديين المعتمدين على الأرقام، ولكني اختلف معه في أن قواعده العشر لا تتضمن مؤشّرات مهمة، تفسر انطلاقة الأمم وثبات نموها.
ولعل القاعدة الأهم وجود قيادات مرنة قادرة على الحركة، وعلى تجاوز الأزمات. ولو تأملنا في أمور أخرى ناشئة عن هيمنة الكبار، وإمكانات الحروب للوصول إلى الثروات، وتنافس الاقتصادات العملاقة، والهيمنة على التكنولوجيا المتطوّرة ذات الاستخدامات المكثفة في الاقتصاد العالمي، لرأينا أن النتائج ستختلف عما تنبأ به شارما.
وأعتقد أنه إنسان ذكي، وتاجر ذكي استطاع أن يكتب كتبا رائجة، تحمل عناوين مختلفة وأفكاراً متشابهة، إنْ لم تكن تحمل الفكرة نفسها. شارما يستحق القراءة. وله في بعض كتبه تحليلات ذكية تعطي صورة معمقة وصوراً ساكنة ذات دلالات بعيدة. ولكن أفكاره لن تعمّر طويلاً، إلا إذا طوّرها وجعلها أكثر ديناميكية مما هي عليه.