لم تسلم تحويلات العاملين في الخارج من الأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا التي أصابت الاقتصاد العالمي بالشلل النصفي، وأجبرت كل دوله على الانطواء على ذاتها وإغلاق حدودها وفرض العزلة على شعبها. وهكذا أصبح مصير العديد من العاملين العرب خارج بلدانهم بمثابة "كبش فداء" بمجرَّد تفشِّي ذلك الفيروس، وتراجعت تحويلاتهم المالية التي تعتبر الشريان الأساسي للحياة الاقتصادية للعديد من الأسر في العالم العربي.
فقد قدَّر البنك الدولي انخفاض تلك التحويلات المرسلة إلى البلدان المنخفضة ومتوسطة الدخل بـ 20 بالمائة، من 554 مليار دولار في عام 2019 إلى 445 مليار دولار في عام 2020، بسبب فقدان العديد من المغتربين وظائفهم، استمرار الحجر الصحي، انتشار خطر العدوى، خفض ساعات العمل والأجور، تعطُّل العديد من القطاعات التي تُشغِّل العمالة المهاجرة كالصناعة، الزراعة، البناء، السياحة والخدمات، تراجع حجم التجارة الدولية، وانهيار أسعار النفط الذي نغَّص حياة العمالة المهاجرة في دول الخليج العربي.
كما فاقمت جائحة كورونا من ممارسات التمييز العنصري وكراهية الأجانب، التي أدَّت بدورها إلى تأجيج التوتُّرات الاجتماعية وإطلاق العنان لنداءات ترحيل العمال الأجانب، لتنهار معها معنويات العديد من الأسر المعتمدة على تحويلات أولئك المغتربين، وكذا آمال البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل التي يستند اقتصادها على تلك التحويلات المالية، التي فاقت بدورها مبالغ الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة إلى تلك الدول في عام 2019، وفقاً لإحصائيات البنك الدولي.
جاءت جائحة كورونا إلى هذا العالم بغتة ونسفت التقدُّم الذي تمَّ إحرازه في ﻣﺆﺷﺮات أﻫﺪاف اﻟﺘﻨﻤﻴﺔ المستدامة (المتعلقة بزيادة حجم التحويلات كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، خفض تكاليف التحويلات وتقليل تكاليف التوظيف المدفوعة من قبل العمال المهاجرين) وأرجعتها عدّة خطوات إلى الوراء في العام الجاري.
فقد توقَّع البنك الدولي، في تقرير له أصدره في إبريل/نيسان 2020 تحت عنوان "أزمة كوفيد-19 من خلال عدسة الهجرة"، انخفاض التحويلات المالية إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنحو 20 بالمائة في عام 2020، لتصل إلى 47 مليار دولار، بعد ارتفاعها بنسبة 2.6 بالمائة في عام 2019.
ويُعزى هذا الانخفاض المرتقب في التحويلات إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي والانكماشات الحادة في الناتج المحلي الإجمالي وانخفاض أسعار النفط في دول مجلس التعاون الخليجي وروسيا.
كما يرجع سبب تراجع التحويلات من منطقة اليورو أيضاً إلى التباطؤ الاقتصادي الذي كانت تعاني منه قبل تفشِّي الفيروس وانخفاض قيمة اليورو مقابل الدولار، حيث ستتحمَّل كل من المغرب وتونس خسائر كبيرة في التحويلات المالية القادمة من منطقة اليورو بنسبة تتراوح ما بين 17 إلى 18 بالمائة في نهاية العام الجاري.
تجد اقتصادات دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا متنفِّساً مهماً لها في التحويلات المالية التي بلغت، حسب إحصائيات البنك الدولي في عام 2019، نحو 26.8 مليار دولار إلى مصر، 7.5 مليارات دولار إلى لبنان، 6.7 مليارات دولار إلى المغرب، 4.5 مليارات دولار إلى الأردن، 3.8 مليارات دولار إلى اليمن، 2.4 مليار دولار إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، 1.9 مليار دولار إلى تونس، 1.8 مليار دولار إلى الجزائر، 1.6 مليار دولار إلى سورية، و1.3 مليار دولار إلى إيران.
ولكن تتَّضح الصورة أكثر فيما يتعلق بالدول التي يرتفع معدل اعتمادها على تلك التحويلات عند احتساب نسبة تلك التدفُّقات المالية من الناتج المحلي الإجمالي كالآتي، 16.3 بالمائة في الضفة الغربية وقطاع غزة، 12.7 بالمائة في لبنان، 12.6 بالمائة في اليمن، 10.2 بالمائة في الأردن، 8.9 بالمائة في مصر، 5.6 بالمائة في المغرب، 4.9 بالمائة في تونس، 1 بالمائة في الجزائر، و0.3 بالمائة في العراق.
كما أشار البنك الدولي في تقريره إلى أنّ تكلفة تحويل 200 دولار إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد ارتفعت بشكل طفيف من 6.76 بالمائة في الربع الأول من عام 2019 إلى 7 بالمائة من المبلغ المرسل في الربع الأول من العام الجاري.
وتجدر الإشارة إلى أنّ تلك التكلفة تختلف باختلاف قنوات التحويل، فهي تتجاوز، على سبيل المثال، 9 بالمائة عند إرسال الأموال من دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD إلى لبنان، وتتراوح ما بين 3 إلى 5 بالمائة عند تحويل الأموال من دول مجلس التعاون الخليجي إلى مصر والأردن، وتقترب من 5 بالمائة عند تحويل الأموال من السعودية إلى سورية.
علماً أنّ هذه نسبة الأخيرة كانت جدّ مرتفعة وتراوحت ما بين 20 و25 بالمائة قبل بداية عام 2019، نتيجة لتأزُّم الحرب الأهلية آنذاك، واستمرار العنف والصراع وعدم الاستقرار في سورية.
ولم تكتفِ أزمة كورونا بتضييق الخناق على العاملين العرب خارج بلدانهم وتحويلاتهم المالية فحسب، بل أوصدت أيضاً الأبواب في وجه النازحين من سورية والعراق واليمن بسبب النزاعات والحروب التي لم تضع أوزارها بعد.
فقد سجَّلت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR في إبريل/نيسان 2020 وجود 5.6 ملايين شخص سوري من طالبي اللجوء واللاجئين والمشردين داخلياً، وأعلنت عن وجود 3.6 ملايين لاجئ أو طالب لجوء سوري في تركيا، 0.9 مليون في لبنان، 0.7 مليون في الأردن، و0.2 مليون في العراق.
كما أكَّدت المفوضية في مارس/آذار 2020 على وجود أعداد هائلة من النازحين العراقيين واليمنيين، وكل هؤلاء يحتاجون إلى دعم كبير من قبل الحكومات المستقبلة لهم في ظلّ استمرار تفشِّي الجائحة، فعلى سبيل المثال قدَّمت ولاية كاليفورنيا الأميركية ما مقداره 75 مليون دولار بغية منح دعم يُقدَّر بـ 500 دولار لكل عامل مهاجر لا يحمل وثائق رسمية.
خلاصة القول أنّ جائحة كورونا التي تأبى أن تفارق عالمنا تحاصر العمالة المهاجرة من كل ناحية وتهدِّد بتجفيف تحويلاتهم المالية المرسلة من أجل دعم أسرهم المقيمة في بلدانهم الأصلية، ويتطلَّب استمرار تماسك تلك التحويلات من حكومات الدول المستقبلة للعمال المهاجرين أن تُقدِّم لهم الرعاية الصحية والسلع والخدمات الأساسية، تثميناً لجهودهم وحتى يتمكَّنوا من الاستمرار في إعانة أسرهم ولو بمدخراتهم الضئيلة.