في نهاية العام 2016 طبقت الحكومة المصرية برنامجاً شديد التقشف، بالغ القسوة على المصريين حمل اسم "برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي 2016-2016"، كان الهدف الأوحد من البرنامج هو تطبيق شروط صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار على مدة 3 سنوات.
حينها أقدمت الحكومة على تعويم العملة المحلية وتحرير سوق الصرف الأجنبي والذي أدى إلى تهاوي قيمة الجنيه المصري وفقدانه نحو 50% من قيمته مقابل الدولار بين ليلة وضحاها.
وصاحب خطوة التعويم الخضوع لباقي مطالب الصندوق الأخرى، ومنها خفض الدعم الحكومي المقدم للسلع الرئيسية، وزيادة أسعار الوقود، سواء بنزين أو سولار وغاز منزلي، وزيادة الضرائب مع تطبيق ضريبة القيمة المضافة لأول مرة وبنسبة عالية تصل إلى 14%.
كما صاحبها تطبيق زيادات قياسية في كلفة كل الخدمات المقدمة للمصريين، من مياه وكهرباء وصرف صحي واتصالات وتليفونات ومترو أنفاق وقطارات وغيرها من وسائل النقل والمواصلات العامة، كما تمت زيادة الرسوم الحكومية المتعلقة بالأحوال المدنية والشهر العقاري والتسجيل والمرور وغيرها.
ومع البدء في تطبيق هذه الإجراءات التقشفية العنيفة، انتشرت قوات الأمن في كل ميادين مصر وداخل محطات المترو والمواصلات العامة لقمع أي حركة احتجاج على هذه الخطوات التي استهدفت غالبية المصريين واعتقال المشاركين بها حتى لو كان عددهم صغيراً، وقد حدث ذلك مع بعض المحتجين من مواطنين وسائقي سيارات السيرفس والميكروبوصات والتوك توك وغيرها.
وتحت تهديد السلاح والقمع والاعتقال والتغييب وراء غياهب السجون، سكت الشعب المصري على تلك الإجراءات التقشفية العنيفة التي أدت إلى دحرجة الملايين من الطبقة الوسطى والمستورة إلى الطبقة الفقيرة وربما إلى طبقة الفقر المدقع التي تواجه صعوبة في الحصول على وجبة غذاء واحدة في اليوم، وهو ما شجع السلطات الحاكمة على مواصلة تطبيق شروط صندوق النقد القاسية وإجراء زيادات قياسية على كل أسعار السلع، بما فيها الغذائية ورغيف الخبز، تصل إلى أكثر من 500%، واستهداف جيب المواطن عبر فرض مئات من الرسوم والضرائب التي لم يعرفها من قبل، وبيع أسعار السلع الضرورية بالأسعار العالمية، بل وربما أغلى من تلك الأسعار.
وعلى الرغم من انتهاء ما أطلق عليه اسم برنامج الإصلاح الاقتصادي، إلا أن الحكومة المصرية واصلت تطبيق برنامجها التقشفي من حيث تحرير أسعار السلع والخدمات الأساسية، والتوسع في سياسة فرض مزيد من الضرائب والرسوم، وبيع الشركات العامة، مع الاتجاه إلى خصخصة قطاعات خدمية، منها الصحة والتعليم.
والملفت في التجربة المصرية أنه في الوقت الذي استهدف فيه برنامج الحكومة التقشفي الطبقات الفقيرة والمتوسطة بالدرجة الأولى، فقد تعاملت الحكومة مع طبقة رجال الأعمال والمستثمرين بمنتهى "الدلال"، حيث لم تمس هذه الإجراءات الأثرياء، خاصة كبار المضاربين في البورصة والأسهم.
ويبدو أن التجربة المصرية شجعت دولا أخرى على تطبيقها والاقتداء بها، فيوم 25 فبراير/ شباط 2019 وعلى هامش مشاركته في القمة العربية الأوروبية التي عقدت بمدينة شرم الشيخ، خرج علينا رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري قائلا إن السيسي "قام بإصلاحات اقتصادية شاملة على مدار السنوات الماضية، نجحت في تغيير وجه مصر، وأن لبنان يسعى لنقل التجربة المصرية في مجال الإصلاح الاقتصادي والتي جعلتنا فخورين بها".
وكرر الحريري تلك التصريحات في مناسبات عدة، منها خلال لقاء السيسي على هامش أعمال القمة الإسلامية بمكة المكرمة، في بداية شهر يونيو/ حزيران 2019، وفي كلمته أمام منتدى الاقتصاد العربي يوم 2 مايو/ أيار 2019.
ويبدو أن لبنان مقبل بالفعل على تطبيق التجربة المصرية المُرة والدخول في اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض ضخمة منه لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية الحادة التي تمر بها البلاد والتي دفعتها إلى التوقف عن سداد الديون الخارجية.
السودان يسير بالمسطرة على التجربة المصرية، فقد بدأ بالفعل بتطبيق أحد شروط صندوق النقد الدولي وهو تحرير سعر الوقود، وبعدها سيطبق الخطوات الأخرى من تعويم الجنيه، وإجراء زيادات قياسية في الأسعار والضرائب والرسوم، وبيع الشركات التابعة للدولة، وذلك على أمل الحصول على قروض ضخمة من الصندوق والمؤسسات الدولية الأخرى. والملفت أن الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة الانتقالية في الخرطوم تمت بمخالفة لما تم الاتفاق عليه في المؤتمر الاقتصادي القومي الأخير برفض أي قرار يتعلق بتحرير سعر الوقود قبل تحسن الوضع المعيشي للمواطن، لكن يبدو أن عسكر السودان كان لهم الصوت الأقوى في هذا القرار.
الحكومة المصرية نجحت في فرض برنامج الإصلاح الاقتصادي، ليس بقوة الإقناع والحوار المجتمعي كما زعم البعض، لكن بقوة القهر والذل والتلويح بالقوة في وجه أي معارض لنهب السلطة لما تبقى في جيبه، فهل تنجح التجربة في دول عربية أخرى بدأت المشوار مثل السودان، أو على الطريق كما هو الحال في لبنان، أو تفكر كما هو الحال في الجزائر والعراق وسورية ودول أخرى.
أم أن الشعوب ستثور على هذه الحالة، وخاصة أن التجربة المصرية تقول إنه رغم ذلك التقشف الحاد وقفزات الأسعار لم يشهد حال المواطن أي نوع من التحسن، بل وتراجعت مؤشرات الاقتصاد واستمر عجز الموازنة العامة، بل وحدث توسع قياسي في الدين العام رفع دين مصر الخارجي إلى أكثر من 123 مليار دولار مقارنة بنحو 45 مليار دولار في العام 2013.