تعود ماكينة الاقتصاد الصيني للنمو بقوة لجرّ الاقتصاد العالمي من هاوية التباطؤ، ولكن هذه المرة لن يكون نمو التنين عبر قوة الصادرات كما كان في الأعوام التي سبقت جائحة كورونا، بل عبر قوة الاستهلاك المحلي. وتستفيد الشركات الصينية في نموها كذلك من انخفاض كلفة الإنتاج عبر الوقود الرخيص الذي تحصل عليه من روسيا.
وتحصل الشركات الصينية على خام الأورال الروسي بحسومات تتجاوز 30 دولاراً، مقارنة بخام برنت، بسبب العقوبات الغربية وخسارتها للسوق الأوروبية، وهو ما يعني أن كلف الإنتاج لدى الشركات الصينية ستكون منخفضة جداً مقارنة بكلف الإنتاج في الدول الغربية.
وحسب بيانات مكتب الإحصاء الوطني الصيني التي نشرها أمس الأربعاء، نمت مبيعات التجزئة في الصين بنسبة 3.5% في يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، مسجلة تحولاً إيجابياً مقارنة بالانكماش السنوي البالغ 1.8% المسجل في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. كذلك، ارتفع الإنتاج الصناعي في الشهرين الأولين بنسبة 2.4% من 1.3% في ديسمبر/ كانون الأول. وزاد الاستثمار في الأصول الثابتة، مثل البنية التحتية والآلات بنسبة 5.5%.
وقال المكتب الوطني للإحصاء الصيني إن الناتج المحلي الإجمالي نما بنسبة 3% في عام 2022. وكان ذلك أفضل من توقعات خبراء الاقتصاد التي وضعت له نسبة 2.8%. كذلك ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للربع الرابع بنسبة 2.9%.
ووصف مدير المكتب الوطني للإحصاء، كانغ يي نمو الصين بنسبة 3% بأنه "سريع نسبياً"، في ظل الظروف والصعوبات التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي.
ويرى اقتصاديون أن الصين عبر هذه البيانات القوية خرجت بسرعة من الإجراءات الصارمة التي فرضتها لمدة ثلاث سنوات لمحاربة جائحة كوفيد 19، والتي أطلق عليها في بكين "صفر كوفيد"، وعاد الاقتصاد للنمو بعجلة متسارعة.
وقالت الصين هذا الأسبوع إنها اعادت فتح حدودها أمام السائحين الأجانب للمرة الأولى في ثلاث سنوات منذ تفشي جائحة كوفيد-19، وذلك من خلال معاودة إصدار مختلف أنواع التأشيرات اعتباراً من أمس الأربعاء.
ومن المنتظر أن يساعد الدعم الذي سيتلقاه القطاع السياحي في إنعاش الاقتصاد الذي سجل العام الماضي واحداً من أبطأ معدلات نموه في نحو نصف قرن.
وتشير البيانات الرسمية في بكين إلى أن التعافي المتوقع للصين يسير على الطريق الصحيح على نطاق واسع بعد الإعلان في العام الماضي عن أضعف سنواتها للنمو الاقتصادي منذ عقود في العام الماضي 2022.
ويشير الانتعاش في مبيعات التجزئة إلى أن الاستهلاك المحلي هو الذي يقود النمو الاقتصادي في الصين، فيما لا تزال المصانع تعاني ضعف الصادرات المتدهورة وتداعيات التراجع الكبير في قطاع العقارات.
وحسب بيانات مؤسسة "تريدنغ إيكونومكس" التي ترصد أداء الاقتصادات العالمية، من المتوقع أن يبلغ إجمالي الناتج المحلي في الصين 17.3 تريليون دولار في العام الجاري 2023، وأن يرتفع إلى 17.5 تريليون دولار في عام 2024، على الرغم من أن الاقتصاديين يحذرون من أن الفوائد التي قد تعود على الاقتصادات العالمية ستكون محدودة من النمو الصيني، لأن الانتعاش الذي يقوده الاستهلاك سيعني طلباً أقل على الواردات من بقية العالم مقارنة بالتحفيز والاستثمارات التي يغذيها التوسع الصيني.
لكن يرى آخرون أن النمو الاستهلاكي في الصين سيعني كذلك انتعاش أسعار النفط والمعادن والسلع الأخرى التي تستوردها الشركات الصينية، خصوصاً من الدول النامية والفقيرة في أميركا الجنوبية وفي أفريقيا.
ومن المتوقع أن تستفيد الشركات الصينية من تحريك الصادرات من السوق الروسية التي تعاني من العقوبات، وتعتمد على الصين في سد معظم احتياجاتها من المواد المصنعة التي كانت تستوردها في السابق من الدول الغربية.
ويرى رئيس اقتصاديات الصين في مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس" في سنغافورة، جوليان إيفانز ريتشارد أنه "إذا كان الاقتصاد الصيني ينمو بشكل أفضل، سيساعد الاقتصاد العالمي ككل". لكنه يشير إلى أن انتعاش الاقتصاد الصيني المتوقع خلال العام الجاري مختلف قليلاً عن انتعاش الصين المعتاد في الأعوام الماضية بسبب ضعف الصادرات الصينية التي كانت توفر بضائع رخيصة في الأسواق الغربية.
وفي أعقاب تخلي بكين عن سياسة "صفر كوفيد"، راجعت العديد من المؤسسات الاقتصادية توقعاتها للنمو الاقتصادي للصين. في ذات الصدد، ترى وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في تحليلها للاقتصاد الصيني، أن العديد من المؤشرات الاقتصادية لا تزال مرتفعة في البلاد، حيث قفز مؤشر مديري المشتريات الخدمي إلى 54.4 في يناير/ كانون الثاني 2023 من 41.6 في ديسمبر/ كانون الأول عام 2022. وترى فيتش أن الخروج السريع من صدمة "جائحة كوفيد" يعني أن النشاط الاقتصادي في النصف الأول من العام الجاري سيكون أقوى من توقعات خبراء الاقتصاد التي وضعت للنمو الاقتصادي في نهاية العام الماضي.
وتقول فيتش: "كان نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للاقتصاد الصيني في الربع الرابع من العام الماضي 2022 أعلى من توقعاتنا التي وضعناها في 5 ديسمبر/ كانون 2022، وبالتالي سيكون الانتعاش أقوى في الصين.
لكن في مقابل هذه النظرة المتفائلة، يرى محللون أن عدم ارتفاع معدل التضخم في الصيني يعني أن هنالك نقصاً بالطلب المحلي. وقال المحلل الاقتصادي فو لينغهويي فو، إنه "مع ارتفاع معدلات التضخم قد تستمر بعض الاقتصادات الكبرى في تشديد السياسة النقدية، الأمر الذي سيحد من النمو العالمي" الذي تعتمد عليه بكين في التصدير. ويواجه النمو الاقتصادي الصيني أيضاً احتمالات التصعيد في الحرب الروسية التي ستنعكس بمزيد من الضغوط على أسواقه التصديرية الكبرى في أميركا الدول الأوروبية.