عديدة هي العملات التي مرت على جيوب التونسيين، حيث كان لقطع النقود المعدنية الصغيرة منها نصيب مهم، قبل أن تسقط من دائرة التداول متأثرة بموجات التضخم الذي أنهى مفعولها المالي رغم تواصل وضعها القانوني.
ورسمياً تتشكل العملات المتداولة في تونس من أوراق نقدية من فئات تتراوح ما بين 5 و50 دينارا (نحو 16.24 دولارا)، بينما تتشكل العملات النقدية الصغيرة من مجموعة من القطع المعدنية تتراوح قيمتها ما بين 5 مليمات (أو ما يصلح عليه محليا بـ"الدورو") و5 دنانير. وفي 2013 أصدر البنك المركزي التونسي قطعتين معدنيتين جديدتين من فئتي 200 مليم ودينارين.
ورغم محافظة البنك المركزي التونسي على القطع النقدية الصغيرة ضمن السلة الرسمية للعملة المحلية المتداولة، إلا أن هذه الأخيرة فقدت مفعولها المالي وتتجه نحو الاختفاء نهائيا من محافظ التونسيين وجيبوهم، لتلاقي مصير عملات أخرى تحوّلت إلى شواهد على العصر في متحف العملة التونسي.
ومرّت تونس خلال السنوات الأخيرة بموجات غلاء قياسي أثر بشكل كبير على قدرة المواطنين على الإنفاق وقيمة الدينار المهدد بالانزلاق بسبب أزمة المالية العمومية وتواصل غياب التمويلات الخارجية لزيادة احتياطي العملة الصعبة.
وتبلغ نسبة التضخم في تونس، بحسب أحدث البيانات الرسمية، 10.3 بالمائة، وهي النسبة الأعلى التي تسجّلها البلاد منذ 4 عقود.
ويقر المدير العام السابق للسياسات النقدية بالبنك المركزي التونسي محمد سويلم، بتأثير التضخم على قيمة المسكوكات من العملة التونسية، مؤكدا أن التضخم ينهي المفعول المالي للقطع النقدية الصغيرة من فئة 5 و10 و20 و50 مليما.
وقال سويلم، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن هذه القطع النقدية تواجه ذات المصير الذي واجهته القطع النقدية من فئة مليم واحد ومليمين في السابق، مشيرا إلى أن تاريخ العملات شاهد على اندثار قطع نقدية معدنية أخرى، غير أن الغلاء يسرع بإنهاء مفعولها المالي.
ورجّح المسؤول السابق بالبنك المركزي التونسي أن يتسبب تواصل إلغاء التضخم عملات نقدية أخرى ومن بينها العملات من فئة 100 و200 مليم على المدى المتوسط، مشيرا إلى أن ذلك قد يؤدي رسميا إلى مراجعة قيمة إصدار الدينار المقدرة بـ1000 مليم حاليا.
والدينار هو العملة الرسمية للجمهورية التونسية، إذ تم اعتماده منذ الأول من نوفمبر/تشرين الأول 1958، وينقسم إلى ألف مليم وقدّرت قيمته عند إصداره بـ2.115880 غرام من الذهب الخالص.
لا يزال البنك المركزي التونسي يعتمد المليم في تحديد قيمة العملات النقدية الصغرى، غير أنه قد يضطر إلى تغييرها لاحقا بسبب انتفاء القيمة المالية للمليم كوحدة نقدية، حسب سويلم.
وتابع المتحدث "تراجع قيمة تداول العملات النقدية المعدنية مرتبط أيضا بالكلفة العالية لصكّ هذه القطع".
وتقدر الأوراق النقدية والمسكوكات المتداولة في تونس بأكثر من 19 مليار دينار، حسب البيانات المنشورة على الموقع الرسمي للبنك المركزي التونسي.
ويقول سويلم في هذا الصدد إن حجم الأوراق النقدية والمسكوكات المتداولة يقدر بـ14 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الذي يناهز 140 مليار دينار، لافتا إلى أن هذه النسبة تعد مقبولة مقارنة بنسبتها في الدول النامية.
وأشار إلى أن توسّع الأنشطة الاقتصادية الموازية يزيد من التداول النقدي "الكاش" ،غير أنه هذا التداول يقصى آليا القطع النقدية التي تفقد قيمتها المالية مع صعود الأسعار.
ويطالب خبراء اقتصاد في تونس بضرورة تسريع مسار رقمنة الاقتصاد والمعاملات المالية وتقليل الاعتماد على "الكاش"، عبر تعميم آليات ووسائل الدفع والاستخلاص عن بعد.
ويؤكد الخبير المالي محسن حسن، أن التضخم يفقد العملات سواء المعدنية أو الأوراق النقدية قيمتها، ما يتسبب في تآكل القيمة مقابل ارتفاع حجم الكتلة النقدية المتداولة.
وأفاد حسن، في تصريح لـ"العربي الجديد"، بأن تونس تحت تأثير موجة تضخم عالية وهيكلية من أبرز نتائجها فقدان العملة المحلية قيمتها.
ورجّح أن يتواصل الغلاء عند مستويات عالية إلى نهاية 2023، في ظل تواصل أسبابه ومن أبرزها ضعف النمو الاقتصادي.
حسب التقرير السنوي للبنك المركزي التونسي لعام 2021، بلغت قيمة الأموال المتداولة 17.2 مليار دينار، منها 2 بالمائة قطعا نقدية من الفئات الصغيرة.
منذ ثلاث سنوات، انطلقت سلطات تونس في خطّة للتركيز على ترشيد التداول النقدي للأموال والتشجيع على التوجه نحو اعتماد المعاملات الرقمية، لكن فعالية هذه الخطة ظلّت محدودة في ظل إرث اجتماعي واقتصادي يعلي قيمة التداول النقدي.
ورغم تنوع وسائل الدفع الإلكترونية والتحويلات البنكية والعملات الرقمية وإثبات نجاعتها تتشبث فئة كبيرة من التونسيين بالتعامل النقدي الذي يوفر لهم ضمانات أكبر.
ومنذ ما يزيد عن 15 عاما، حاولت سلطات تونس حفظ ذاكرتها النقدية بتأسيس متحف العملة في نوفمبر/تشرين الأول 2008، ليخلد ذاكرة أهم الفترات التاريخية التي مرت بها النقود التونسية التي تمتد إلى قرابة 2500 سنة من تاريخ العملة المتداولة، حيث يمثل تداول أو اختفاء عملة شاهدا على تلك الفترة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.