تفاءل السودانيون كثيراً بالإعلان قبل نحو عامين عن تشكيل لجنة إزالة "التمكين" ومحاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير الذي أطاحته الثورة في إبريل/ نيسان 2019، وسط آمال كبيرة باسترداد أموال الشعب، التي تقدرها بيانات رسمية بعشرات مليارات الدولارات منها فقط 64 مليار دولار تجاوزت حدود الدولة، حيث خرجت بشكل مباشر أو عن طريق تصدير سلع مثل النفط والذهب.
ومنذ بدأت اللجنة في كشف مصادرة مقتنيات وأموال وشركات وأصول عقارية وأراض زراعية خصبة بمليارات الدولارات، راح السودانيون يتسمرون بشغف أمام شاشة التلفاز في كل مرة تعقد فيها اللجنة مؤتمراً صحافيا للكشف عن حصيلة عملها، منتظرين مردود هذه المصادرات على تحسين أوضاعهم المعيشية التي تزداد سوءاً يوما تلو الآخر.
والسبت الماضي كان أحدث ما تم الإعلان عنه، حيث أكدت اللجنة استرداد أراض مسجلة بأسماء رموز وقادة النظام السابق، بلغت جملتها 2376 فدانا (حوالي 10 ملايين متر مربع)، بالإضافة إلى أصول عقارية، تم الاستيلاء عليها عبر استغلال النفوذ والسلطات.
تظهر سجلات بنك السودان المركزي أن قيمة صادرات الذهب بلغت خلال الفترة ما بين 2012 و2018، نحو 6.8 مليارات دولار، في حين تكشف سجلات الدول المستوردة أنها استوردت بقيمة 12.7 مليار دولار
وقبل نحو ثلاثة أسابيع من الإعلان الأخير، تم الكشف عن تتبع 90 حساباً مصرفيا يجري عبرها تحويلات من حساب لحساب في نفس اليوم بمبالغ كبيرة يتم الاتجار عبرها بالنقد الأجنبي، بما يتجاوز 64 مليار جنيه سوداني (145.2 مليون دولار).
استرداد 1.2 مليار دولار
في إبريل/ نيسان الماضي، أعلنت اللجنة عن استرداد أسهم تجارية وأراض من رجل الأعمال عبد الباسط حمزة المحسوب على نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، تبلغ قيمتها 1.2 مليار دولار، فيما شهدت الأسابيع والأشهر السابقة إعلانات متكررة عن مصادرات واسترداد لأموال وممتلكات.
لكن الأيام الأخيرة بدت التصريحات الحكومية متضاربة حول وجهة الأموال التي يجري استردادها، فبينما تؤكد لجنة إزالة التمكين تسليمها إلى وزارة المالية، تنفى الوزارة بشكل متكرر تسلمها جنيها واحداً من هذه الأموال، ليخيم الغموض الكبير حول مصير هذه الأموال وأين تذهب وإذا ما كان هناك صراع داخلي بين أطراف الحكم للاستئثار بها.
وزيرة المالية السابقة هبة محمد على، التي تولت الوزارة في الفترة من 9 يوليو/ تموز 2020 حتى 8 فبراير/ شباط 2021، نفت استلام أي مبلغ من لجنة إزالة التمكين واسترداد الأموال، وهو الأمر الذي جعل الشعب السوداني في حيرة بحثاً عن الحقيقة.
وقبل نحو ثلاثة أشهر، نفي أيضا وزير المالية الحالي، جبريل إبراهيم، استلام وزارته أي مبلغ من لجنة إزالة التمكين، حيث قال في مؤتمر صحافي، إن الوزارة لم تتسلم حتى الآن "دولاراً واحدا" من اللجنة.
لكن عضو لجنة إزالة التمكين، وجدي صالح، قال إن حديث وزير المالية "غير دقيق"، وكشف في برنامج "البناء الوطني" الذي بثه التلفزيون الرسمي منتصف يونيو/حزيران الماضي، تفاصيل كثيرة حول الأموال والأصول التي تقبع حالياً تحت سيطرة وزارة المالية بحسب قرارات اللجنة بأيلولتها لها.
لكن وزير المالية عاد ليؤكد بعدها عدم تسلم الوزارة أي أموال من لجنة إزالة التمكين، وكذب في تصريح صحافي حديث عضو لجنة إزالة التمكين وجدي صالح، مطالباً بإبراز أي مستندات تدل على تسلم الوزارة الأموال.
وقال جبريل إن "وزارة المالية لديها حسابات معلومة وبأرقام محددة تُودع فيها الأموال، ولو تم تسليم مبالغ نقدية كما يدعي وجدي، فليبرز لنا مستند التوريد الذي حصل عليه من الخزنة".
لجنة إزالة التمكين تتألف من سياسيين وقادة عسكريين ومسؤولين حكوميين
وفي ظل الاتهامات المتبادلة بالاستئثار بالأموال المصادرة، يتكشف وفق مراقبين أن هناك صراعاً بين أطراف الحكومة حول استرداد الأموال المنهوبة وإدارة ملفها، وما إذا كانت هذه الأموال المستردة حقيقية، أم تقع تحت بند الدعاية وبروباغندا السلطة.
صراع على الأموال
وقال القيادي في حزب المؤتمر الشعبي عبد العال مكين، إنه "رغم أحقية لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد في إدارة هذا الملف إلا أنها غير واضحة في الكشف عن الأموال المستردة ومحاكمة الفاسدين"، مطالبا اللجنة بإبراز مستنداتها التي أودعت بها الأموال المستردة في خزينة وزارة المالية.
وأضاف مكين لـ"العربي الجديد": "إذا لم تكشف اللجنة عن تلك الأموال، يجب علي وزارة المالية مساءلة اللجنة عبر الطرق القانونية"، مشيرا إلى وجود صراع حول الأموال التي يجري استردادها، بينما الاقتصاد يعاني من الانهيار.
وتابع أن الاعتماد كله أضحى على المنح والهبات والمعونة، الأمر الذي يقود البلاد إلى وضع كارثي، مشددا على ضرورة تكامل مختلف الجهات الحكومية للعمل على تعافي الاقتصاد.
وقال إن "الوضع الاقتصادي خانق والمواطن مستاء جدا من تصرفات الحكومة بتنفيذ سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين، مع عدم مراعاة معيشة الناس في ظل ضعف الأجور وارتفاع الأسعار وندرة الخدمات الأساسية من كهرباء وماء وغاز"، محذرا من أن الوضع القائم يقود البلاد إلى مستقبل مظلم وربما تحدث فوضي عارمة.
وفي تصريحات صحافية أخيراً، وصف علي شوقار، عضو مجلس "سلام دارفور" الصراع على أموال الثورة بأنه "فضيحة كبرى" لا سيما في ظل الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي تمر به البلاد.
وقال شوقار "من حق الشعب السوداني أن يعلم، كم من الأصول والأموال السائلة والمنقولة والمجمدة في الداخل والخارج التي وضعت لجنة إزالة التمكين يدها عليها"، مضيفا إن "كانت اللجنة سلمت وزارة المالية أي شيء لا بد من سند تسليم وتسلم بعلم مجلس الوزراء ومجلس السيادة".
عسكريون في لجنة إزالة التمكين
وتتألف لجنة إزالة التمكين من سياسيين وقادة عسكريين ومسؤولين حكوميين، ومن المقرر أن تواصل عملها حتى نهاية الفترة الانتقالية المقرر لها مطلع عام 2024. ووفق بيانات صادرة عن اللجنة مطلع إبريل/ نيسان الماضي، تم استرداد أكثر من 50 شركة و60 منظمة وأكثر من مليون فدان من الأراضي الزراعية و20 مليون متر مربع من الأراضي السكنية.
ووفق اللجنة لا يقتصر تحويل الأموال المستردة على وزارة المالية وإنما وزارات أخرى، إذ أشارت على لسان مصدر مسؤول فيها خلال تصريحات لوكالة رويترز في الخامس من إبريل/ نيسان إلى أنها "أعادت أكثر من مليار دولار من الأصول غير المشروعة إلى وزارة المالية و400 مليون دولار أخرى إلى وزارة الشؤون الدينية والأوقاف".
ومن بين ما استعادته اللجنة، فنادق ومدارس ومزارع دجاج وملعب غولف في ضواحي الخرطوم. ويعبر مواطنون عن سعادتهم باسترداد تلك الأصول التي يتم الإعلان عنها تباعا، مطالبين اللجنة بالاستمرار في العمل حتى تعيد لهم كل حقوقهم التي نهبها رموز نظام البشير، إلا أن مصدرا مسؤولا أعرب في تصريح لـ"العربي الجديد" عن تخوفه من " تفرق الأموال بين المتصارعين دون أن يحظى المواطنون سوى بمشاهد الإعلان المتكرر عن استردادها".
وفي يوليو/ تموز الماضي تعهد رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك، بمتابعة ومراجعة التدفقات المالية وإرجاع كافة الأموال المنهوبة والمهربة خارجياً وتوجيهها لتنمية واستقرار البلاد.
ويقدر حجم الأموال التي هربها عناصر النظام السابق للخارج بنحو 64 مليار دولار. وتم تهريب تلك الأموال سواء بشكل مباشر أو عن طريق تصدير سلع مثل النفط والذهب.
تلاعب بحصيلة الصادرات
وفي العام الماضي، كشف تقرير أصدرته منظمة النزاهة المالية الدولية، أن نظام البشير، أخفى حوالي 31 مليار دولار من حصيلة الصادرات السودانية، في الفترة ما بين 2012 و2018، مشيرا إلى حدوث تلاعب كبير في أرقام الصادرات، حيث قارن بين أرقام صادرات البلاد المعلنة من قبل الحكومة، البالغة 65 مليار دولار خلال الفترة المذكورة، بينما البيانات التي حصلت عليها المنظمة من 70 دولة من الشركاء التجاريين للسودان، تظهر أن قيمة واردات هذه الدول من السودان قدرت خلال الفترة المذكورة بنحو 96 مليار دولار.
وكانت إثيوبيا واليابان من بين أكبر 10 شركاء تجاريين، وقد أظهرت بياناتهم هذه الفجوة الكبيرة في عائدات الصادرات. وظهرت الفجوة أكثر في صادرات النفط والذهب، إذ تشير بيانات الحكومة السودانية إلى أنها صدرت 62 مليون برميل خلال الفترة المذكورة، بقيمة 4.8 مليارات دولار.
في حين تشير سجلات البلدان المستوردة للنفط السوداني إلى أنها استوردت 2. 112 مليون برميل بقيمة 8.9 مليارات دولار. كما نوه التقرير إلى وجود "ارتباك كبير في الأدوار المرسومة لوزارة النفط والشركات الحكومية والخاصة، إضافة إلى وجود خلل واضح في التقارير المتعلقة بحركة الصادرات، مما أدى إلى فتح الباب واسعا أمام انتشار عمليات الفساد، وإهدار الكثير من الموارد التي كان يمكن توجيهها لتحسين الخدمات في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية".
ووفقا للتقرير، تظهر سجلات بنك السودان المركزي أن قيمة صادرات الذهب بلغت خلال الفترة ما بين 2012 و2018، نحو 6.8 مليارات دولار، في حين تظهر سجلات الدول المستوردة أنها استوردت بقيمة 12.7 مليار دولار.
وطوال السنوات الماضية، صنّفت منظمة الشفافية الدولية، السودان من بين 20 دولة هي الأكثر فساداً في العالم، لعدم التزامه معايير مكافحة الفساد.
وفي يوليو/ تموز الماضي، أعلن تقرير أعده الاتحاد الأفريقي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا، أن التدفقات المالية غير المشروعة تكلف السودان 5.4 مليارات دولار سنوياً بسبب غسل الأموال والتهرب الجمركي والضريبي والتلاعب في فواتير الصادرات والواردات وتحويل عائدات جرائم الفساد الكبرى بواسطة موظفي الدولة إلى حسابات في الخارج.
بيانات رسمية تقدر الأموال المنهوبة بعشرات مليارات الدولارات، منها فقط 64 مليار دولار تجاوزت حدود الدولة، حيث خرجت بشكل مباشر أو عن طريق تصدير سلع مثل النفط والذهب
وبينما يكتنف الغموض مصير الأموال التي جرت مصادرتها وتعود لرموز نظام البشير وأغلبهم من العسكريين، تخرج بين الحين والآخر مشكلة شركات الجيش إلى العلن، إذ جدّد الجناح المدني في الحكومة الانتقالية مطالبه، بـ"خلو طرف" نظيره العسكري من الشركات الحكومية والأمنية وشركات الجيش وضمها رسمياً إلى وزارة المالية بحكم ولايتها على المال العام في البلاد.
وتزامنت المطالب مع بدء ترتيبات وزارة المالية لإعداد موازنة العام المالي المقبل 2022، ليتم إلحاق أرباحها الضخمة بركب بنود الصرف وسد العجز السنوي الكبير المرتقب في تمويل الموازنة.
وكان رئيس الوزراء قد قال بشكل متكرر إن مشاركة الجيش في شركات القطاع الخاص أمر "غير مقبول"، وأن مثل هذه الشركات يجب أن تتحول إلى شركات "مساهمة عامة" وهو ما يرفضه القادة العسكريون بشدة.