يُعاني ثلثا الشباب الفلسطيني في قطاع غزة من انعدام الاستقلال المادي الذي يُمكنهم من الحياة الكريمة وفتح بيوت مُستقلة، نتيجة الظروف الصعبة التي يمُر بها القطاع، والتي أثرت على مختلف شرائح المجتمع ومكونات الحياة.
ويعتمد ما يُقارِب 70% من الشباب على ذويهم في توفير احتياجاتهم الأساسية، وذلك وفق استطلاع للرأي أجرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر، عبر الإنترنت، من خلال صفحة اللجنة باللغة العربية، على عينة عشوائية، حول الشباب في غزة وقياس الآثار المترتبة على حياتهم بفعل القيود المفروضة على حركة الأفراد والبضائع.
ويُساهِم الحِصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ 16 عاماً، وما يتضمنه من قيود على الحركة والتنقل والحركة التجارية، في التأثير سلباً على مُختلف القطاعات، وفي مقدمتها القِطاع الاقتصادي، والذي يُلقي بظلاله على مختلف شرائح المجتمع، وفي مقدمتها فئة الشباب.
ويدفع التأثير السلبي للقيود والإغلاق البري والبحري والجوي نحو 70% من الشباب إلى قبول أي فرصة عمل، حتى وإن كانت دون المستوى المطلوب، والتي لا يتوافق فيها الجُهد المبذول مع الأجر البسيط، وغير الثابت، إلى جانب أنهم يعانون أيضاً من انعدام الأمان الوظيفي، والذي يُمكنهم من الحصول على أجور تُعينهم على الحياة بكرامة.
ويأتي قبول الشباب بمهن لا توفر لهم حتى الحد الأدنى من الأجور، في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي تمر بها مدينتهم، إذ لا يلتزم عدد من أرباب العمل بالحد الأدنى للأجور، والذي أعلنته الحكومة الفلسطينية ليكون في جميع المناطق والقطاعات بقيمة 1880 شيكلا شهريًا، و85 شيكلا للعاملين بأجور يومية "عُمال المياومة". (الدولار = 3.5 شيكلات تقريبًا).
ويضطر الشباب في غزة أيضاً، ولا سيما خريجو الجامعات، إلى العمل في مهن لا تتوافق مع تخصصاتهم وشهاداتهم الجامعية، بفعل فُرص العمل الشحيحة، حيث يعمل خريج العلاقات العامة سائقًا على سيارة أجرة، وخريج الماجستير بائعًا في السوق، وخريج إدارة الأعمال دهانًا يعمل بالمياومة، وغيرهم من النماذِج التي تكتظ بها المحال التجارية، والمولات، وورش الحِدادة والنِجارة، وقِطاع الإنشاءات، والبِناء والمنشآت السياحية والترفيهية.
وتدفع الأوضاع الاقتصادية المُتردية الشباب إلى التفكير في العمل خارج حدود القطاع لتوفير عمل يمكنهم من الحياة بكرامة، إلا أنهم يصطدمون مُجددًا بجدار الحِصار الإسرائيلي، ويرى نحو 40% من الشباب أنهم فقدوا فُرص عمل في الخارج بفعل الإغلاق، وما يزيد عن 20% أنهم غير قادرين على الخروج من القطاع للبحث عن فرص عمل، وقد انعدم أمل ما يزيد عن 42% من الشباب في الحصول على فرصة عمل خلال العقد والنصف القادمين.
وعن مُسبِبات انعدام الاستقلال المادي لدى ثلثي شباب قطاع غزة، يقول الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر إنها ترجع إلى عِدة عوامل ومُسبِبات، اجتماعية وثقافية تتعلق بالتنشئة الاقتصادية والعادات والتقاليد والانتماء الأسري، إلى جانب الشِق الاقتصادي المتعلق بالأوضاع العامة، وهو الأكثر أهمية، حيث ارتفعت نسبة البطالة بين الشباب في قطاع غزة إلى 70%، بمعنى أن هناك 7 من كل 10 شباب بدون عمل أو دخل، ما يعني استمرار اعتمادهم على الوالدين في الدخل، مؤكداً أن تحسن الوضع الاقتصادي، وتقليل معدلات البطالة وتشغيلها يُمكِنه تخفيف ظاهرة التبعية المالية للأسرة.
ويرى أبو قمر في حديث مع "العربي الجديد"، أن انعدام الاستقلال المادي يتسبب في تداعيات وتأثيرات كارثية على الشباب، وعلى الحالة الاقتصادية، حيث يُكسبهم شعوراً بالنقص وعدم القدرة على الشراء أو الصرف أو الادخار، بينما يتحول المجتمع إلى استهلاكي، إذ إن 90% من البضائع استهلاكية، في ظل عدم وجود دخل وإنتاج حقيقي.
ويضيف أن حالة عدم الاستقلال المادي للشباب تعتبر نتاجاً للسلوك العام الذي يمُر به الفلسطينيون، حيث لا يتوفر للحكومة ذاتها استقلال مادي، وتعاني من التبعية الاقتصادية، إذ إن الاحتلال الإسرائيلي يتحكم بنحو 90% من ميزانية الحكومة الفلسطينية، ما بين المِنح والمُساعدات وأموال المقاصة.
ويُبقي عدم امتلاك السواد الأعظم من الشباب فرص العمل التي تُمكنهم من تغطية نفقاتهم الشخصية انتماءهم واعتمادهم على الأسرة، وعلى رب الأسرة، وفي المُقابِل يدفعهم إلى القبول بأي عرض من العروض المُجحِفة، والتي لا تتوافق مع تخصصاتهم وشهادات تخرجهم.
في الأثناء، يوضح الخبير الاقتصادي سمير الدقران أن قبول الشباب بفرص عمل بغير تخصصاتهم ولا تُلبي احتياجاتهم أو تطلعاتهم لحياة كريمة، يرجِع إلى عدم وجود فرص عمل ومصادر دخل للشباب، ما يضطرهم للقبول بالأعمال، وتصل إلى قبول بعض الأطباء والمهندسين وغيرهم من أصحاب الشهادات برواتب تراوح بين ألف و1200 شيكل، وتكون عملية اضطرارية وعدم تخصُصية، لمُساعدة الأسرة في تغطية المصاريف الشهرية فقط، وليس للعيش الكريم.
أما عن تأثيرات قبول الشباب بالأجور المتدنية، فيوضح الدقران لـ"العربي الجديد"، أنها تأثيرات كبيرة ومُركبة، تبدأ بالأثر النفسي المتمثل في عدم الرضى، والذي يؤثر أيضاً بالسلب على العجلة الإنتاجية، والأثر الاجتماعي المتمثل في زيادة نسب الطلاق أو العزوف عن الزواج، فيما تؤثر قلة المدخولات على الاقتصاد العام نتيجة قلة دوران الأموال في الأسواق، علاوة على أنها تؤثر على معدل الإيرادات للدولة، والتي تُمكنها من تغطية نفقاتها، لأنها تحصل على الضرائب والجمارِك على السلع والخدمات التي تدور في الأسواق.