تأخذ احتجاجات المزارعين في فرنسا ودول أوروبية عدة منحى تصاعدياً في ظل سخط واسع من ارتفاع تكاليف الإنتاج وسطوة التجار الذين يفرضون أسعاراً متدنية فضلا عن الضغوط التي يتعرضون لها بفعل السياسات الحكومية الداعمة للمحاصيل الأوكرانية.
وأغلق المزارعون الطرق السريعة والرئيسية في جميع أنحاء فرنسا، أمس الأربعاء، وانتشرت حواجز الطرق في العديد من المناطق وجرى إلقاء روث الماشية على العديد منها، وذلك بعد يوم واحد من وفاة مزارعة وابنتها نتيجة تصادم مروري عند حاجز احتجاجي. كما قام المزارعون بقلب لافتات الطرق رأساً على عقب للاحتجاج على ما يقولون إنها سياسات زراعية لا معنى لها.
وتمثل الاحتجاجات التحدي الرئيسي لرئيس الوزراء المعين حديثاً غابريال أتال، الذي تولى منصبه قبل أسبوعين، وحكومته. والتقى أتال بممثلي نقابات المزارعين، يوم الثلاثاء الماضي. وعقب الاجتماع، وعد وزير الزراعة مارك فيسنو بتقديم مقترحات جديدة للاستجابة للأزمة بحلول نهاية الأسبوع، بما في ذلك ما يتعلق بأسعار المواد الغذائية وتبسيط اللوائح الحكومية.
وقال أرنو روسو، رئيس اتحاد المزارعين الرئيسيين في فرنسا، إن منظمته ستصدر قائمة تضم 40 تدبيراً حكوميا تزعج المزارعين منذ أكثر من 20 عاماً. وقال في تصريحات لقناة "فرانس 2" التلفزيونية إن التحركات الاحتجاجية تهدف إلى "الحصول على نتائج سريعة".
ونقلت صحيفة لوموند الفرنسية، أمس، عن المزارع لويك كوردييه (25 عاماً) الذي قضى ليلته مستلقياً على حزمة من القش موضوعة على جزء من الطريق السريع في بلدة "هوت جارون" جنوب غرب فرنسا: "يجب على الحكومة أن تستمع إلينا لتأمين دخلنا، في المقام الأول عن طريق خفض الضرائب والعمل على ضبط هوامش الربح التي يحققها كبار تجار التجزئة".
ورفع محتجون لافتات كتبوا عليها "هنا المقاومة مستمرة" و"نهايتنا جوعك". وتلقى احتجاجات المزراعين دعما من حماة البيئة في فرنسا.
قالت رئيسة دعاة حماية البيئة مارين تونديلييه في مقابلة مع قناة "TF1": " أؤيد هذه الحركة الغاضبة للمزارعين بنسبة 200%.. لفترة طويلة جداً كنا نحن المدافعون عن البيئة حلفاء في هذه النضالات لمحاربة معاهدات التجارة الحرة، وإنقاذ الأراضي الزراعية.. عندما نحمي التربة والمياه، فإننا نحمي الزراعة".
ويصف محتجون أن ما يجري حاليا في فرنسا هو "غضب الصغار على الكبار"، لافتين إلى أن 60% من اللحوم الفرنسية ينتجها 3% من المربين. وتسعى الحكومة الفرنسية لامتصاص غضب الفلاحين وعدم انحرافها إلى ما هو أخطر. وفي تغريدة على موقع "إكس" يوم الثلاثاء الماضي، كتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: "إلى مزارعينا: لقد طلبت من الحكومة التعبئة الكاملة لتقديم حلول ملموسة للصعوبات التي تواجهونها".
كذلك قال وزير المالية الفرنسي برونو لومير، إن بلاده ستعمل على ضمان موافقة تجار المواد الغذائية بالتجزئة، على حصة عادلة من الإيرادات للمنتجين في مفاوضات الأسعار السنوية.
ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن لومير قوله، السبت الماضي، خلال زيارة إلى فلافيني شرقي فرنسا، إن مسؤولين من مكتب مكافحة الاحتيال التابع لوزارة الاقتصاد "سيكثفون متابعة المفاوضات التجارية الحالية لضمان الحفاظ على دخل المنتجين الزراعيين".
ويتفاوض تجار التجزئة على الأسعار في بداية كل عام، إذ يجبرهم قانون عام 2018 على أخذ تكاليف الإنتاج في الاعتبار لضمان عدم بيع المزارعين منتجاتهم بخسارة. وأضاف لومير: "لا أريد أن تؤدي هذه المفاوضات إلى إضعاف دخل المنتجين".
وتتمدد احتجاجات المزارعين لتشمل دولاً أوروبية أخرى. فمن من هولندا إلى رومانيا مروراً بألمانيا، يواجه المزارعون حالة من الغليان بسبب أسعار الوقود والمنافسة الأوكرانية والقيود الأوروبية. ورغم تباين دوافعهم، لكن غضبهم يتزايد في مختلف أنحاء أوروبا.
وفي هولندا تسببت خطة حكومية لخفض انبعاثات النيتروجين عن طريق الحد من المواشي بفقدان آلاف المزارعين الهولنديين مصدر رزقهم، ما دفع الفلاحين للخروج فيما يشبه الثورة على مدار أشهر طويلة، حيث بدأت انتفاضة العالم الزراعي في يونيو/ حزيران 2022 في الدولة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 18 مليون نسمة، وهي ثاني أكبر مصدر للمنتجات الغذائية بعد الولايات المتحدة.
وأصبحت الأعلام الهولندية المقلوبة رمزاً لثورتهم التي تحظى بدعم الشعبويين في جميع أنحاء العالم وبينهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. بعد أشهر من الاحتجاجات أدت الثورة ضد السلطة التنفيذية إلى دعم انتخابي عارم لحزب فتي يجمع مزارعين هو "حركة المزارعين المواطنين" التي دخلت بقوة إلى مجلس الشيوخ في مارس/ آذار 2023، لكنها فازت بأقل مما كان متوقعاً في الانتخابات العامة في نوفمبر/ تشرين الثاني.
وسرعان ما انتقلت مشاعر "السخط" في الأشهر الأخيرة إلى بولندا ورومانيا وسلوفاكيا والمجر وبلغاريا، حيث يندد المنتجون بـ"المنافسة غير العادلة" من جانب أوكرانيا المتهمة بخفض أسعار الحبوب. وفي أعقاب الهجوم الروسي، علق الاتحاد الأوروبي الرسوم الجمركية على جميع المنتجات المستوردة من أوكرانيا في مايو/أيار 2022، وأنشأ "ممرات تضامن" للسماح لكييف بنقل مخزونها من الحبوب. لكن كمية كبيرة من الحبوب تراكمت لدى جيرانها الأوروبيين.
واحتجاجا على تدفق كميات القمح أو الذرة، عمد المزارعون في بلغاريا ورومانيا إلى استخدام جراراتهم لإغلاق المعابر الحدودية مع أوكرانيا. وفي بولندا، أدت الاحتجاجات إلى استقالة وزير الزراعة في إبريل/نيسان 2023. لكن ذلك لم يساهم في تهدئة غضبهم: فقد بدأ المشغلون البولنديون بإغلاق نقاط العبور مع أوكرانيا في نوفمبر/تشرين الثاني إلى جانب سائقي الشاحنات. وعلق المزارعون تحركهم في 6 يناير/كانون الثاني الجاري بعد اتفاق مع الحكومة البولندية ينص على تقديم إعانات.
وفي رومانيا، لا يزال المزارعون يضغطون على الحكومة وتظاهروا مجددا في 14 يناير/كانون الثاني الجاري ضد الضرائب التي وصفوها بالباهظة. وعلى المفوضية الأوروبية أن تكشف قريباً نواياها بشأن تجديد الإعفاء الجمركي الذي ينتهي العمل به في يونيو/حزيران.
وفي ألمانيا أكد عدد كبير من المزارعين معارضتهم خطة حكومة المستشار أولاف شولتز، التي تقضي بزيادة الضرائب على الديزل الزراعي وجرى الإعلان عنها في ديسمبر/كانون الأول. ومطلع هذا الشهر أطلقوا أسبوع احتجاجات قامت خلاله قوافل من الجرارات بإغلاق الطرق في جميع أنحاء البلاد.
ووافقت الحكومة الائتلافية الحاكمة التي تضم الديموقراطيين الاشتراكيين والخضر والليبراليين على تقسيط إلغاء الإعفاء حتى 2026، ووعدت بقدر أقل من البيروقراطية. ولكن سيكون من الصعب عليها أن تفعل المزيد في وقت ينبغي عليها توفير المليارات من نفقات الميزانية امتثالا لإنذار القضاة الدستوريين.
وحتى في المملكة المتحدة التي خرجت من الاتحاد الأوروبي، تظاهر منتجو الفواكه والخضروات، الاثنين الماضي، أمام البرلمان في لندن احتجاجا على عقود الشراء "غير العادلة" التي تلزمهم التوزيع على نطاق واسع. ويطالب المزارعون البريطانيون بأن تلتزم المتاجر الستة الكبرى في البلاد "تيسكو" و"سسينزبوري" و"أسدا" و"موريسونز" و"ألدي" و"ليدل" باتفاقيات الشراء "المنصفة"، بما في ذلك شراء الكميات المتفق عليها ودفع المبالغ المستحقة في الوقت المحدد.