في وسط أحد فروع محل BIM الشهير الواقع في منطقة "بيلك دوزو" بمدينة إسطنبول، وقفت سيدة خمسينية تتأمل السلعة التي تمسكها بحذر، وتتمتم بكلمات تركية لا أفهمها. سألتُ صديقا كان بصحبتي يجيد اللغة التركية: ماذا تقول السيدة؟ فقال إنها تتعجب من حال الأسعار التي ترتفع بشكل يومي وسريع، وتقفز بشكل غير معقول يفوق القدرة الشرائية لمعظم المواطنين الأتراك.
اقتربتُ منها وسألتها عبر صديقي: هل امتدت زيادة الأسعار إلى السلع المنتجَة محلياً، هذه أسعار ليست لها علاقة بما يحدث لليرة من تهاوٍ؟ فقالت "الزيادات امتدت إلى كل شيء، لم تنجُ سلعة من الزيادات القياسية التي باتت خارج قدرة الأسر الشرائية. قاطعنا سلعا كثيرة قفزت أسعارها، لكن ماذا عن السلع الرئيسية؟ ماذا عن الدقيق والمياه ولبن الأطفال والبيض واللحوم والدواجن والأجبان وغيرها؟ إذا كانت الزيادة امتدت للسلع المستوردة بسبب قفزات الدولار أمام الليرة، فماذا عن السلع المنتجَة محلياً؟ كنا نظن أن الحكومة ستراقب الأسواق بشكل أكثر صرامة وتعمل على كبح جماح التجار الجشعين".
سيدة ستينية أخرى تقف بالقرب منا اقتربت والتقطت أطراف الحديث، وقالت لي "أنت تقف في واحد من أكبر السلاسل التجارية داخل تركيا، لقد تعرضت هذه السلسلة لعقوبات صارمة من قبل الحكومة، ما تأثير هذه العقوبات؟ لا شيء، لم تخفّض المحال أسعارها، بل واصلت في مسلسل الزيادة الذي يبدو أنه لن ينتهي قريباً".
وكانت السيدة تشير إلى قرار الحكومة التركية، في بداية شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بفرض غرامات على كبريات المتاجر الغذائية بقيمة 2.7 مليار ليرة، بسبب رفعها الأسعار على المستهلكين والتلاعب بالتسعيرة الرسمية لعدد من المنتجات. وكان من أبرز هذه السلاسل كارفور وبيم و101 وشوك وسافولا وميغروس وغيرها.
وتكمل السيدة "لقد تحدّثوا عن زيادة معدل الأجور إلى 4 آلاف ليرة، لماذا تتأخر الزيادة، وهل ستغطي قفزات الأسعار؟ عليهم أن يوقفوا قفزات أسعار السلع أولاً، وأن يوفروا حماية اجتماعية لملايين الأسر التي تأثرت سلبا باضطرابات سوق الصرف وتهاوي الليرة".
تخرج من Bim لتنتقل إلى محل الخضروات الواقع أمام المحل الشهير على الناحية الأخرى، تنظر إلى الأسعار تجد أنها انتقلت من خانة الآحاد إلى العشرات، الطماطم والخيار والخضروات والفاكهة والبطيخ، كل هذا حدث خلال الشهور الماضية، الزيادة طاولت حتى الخضروات والفواكه المنتجَة محلياً، أما السلع المستوردة مثل الموز والحبوب والمواد الأولية فقد تضاعفت أسعارها مثل المستورد من روسيا.
مع هذه الزيادات الأخيرة، تدحرج آلاف الأتراك نحو خط الفقر، فالأرقام الرسمية تشير إلى أن معدل التضخم بلغ 21%
في مول 212 الشهير الواقع في قلب مدينة إسطنبول، تجد أن أسعار بعض السلع انتقلت من خانة العشرات والمئات إلى خانة الآلاف، بما فيها الملابس والأحذية الرياضية.
هناك عروض مغرية للسائح الأجنبي، لكن الإقبال ضعيف من قبل المستهلك المحلي، كما يقول عامل في محل FLO المعروف بتجارة الأحذية.
المطاعم والكافيهات الموجودة داخل المول الشهير لم تعد تعجّ بالزبائن كما كان يحدث قبل سنوات، رغم النشاط الملحوظ الذي يشهده قطاع السياحة، والذي تترجمه إشغالات الفنادق والطائرات المرتفعة والحركة الكثيفة داخل مطار إسطنبول الجديد، وكذا التواجد المكثف للسياح في المناطق السياحية والأثرية الشهيرة داخل إسطنبول.
لم تفلت سلعة من الصعود القياسي خلال الفترة الأخيرة، فأسعار السيارات الجديدة لم تعد في متناول قدرة الغالبية العظمى الشرائية داخل تركيا، بما فيها الطبقات المتوسطة، كما شهدت أسعار السيارات القديمة زيادة ملحوظة، حتى شريحة من الذين يمتلكون سيارات باتوا لا يستقلّونها بسبب زيادات أسعار البنزين والسولار، على خلفية قفزات أسعار النفط في الأسواق الدولية، وباتوا يفضلون المواصلات العامة.
ومع هذه الزيادات الأخيرة، تدحرج آلاف الأتراك نحو خط الفقر، فالأرقام الرسمية تشير إلى أن معدل التضخم بلغ 21%، وهو من أعلى المعدلات في السنوات الأخيرة.
صاحب ذلك استمرار تهاوي الليرة، على الرغم من تدخّل البنك المركزي الذي يصفه مراقبون هنا بالبطيء والمتردد، وهو ما أتاح للمضاربين قيادة سوق الصرف وفرض السعر الذي يحقق لهم أكبر عائد وأرباحا سريعة، حتى ولو على حساب المواطن والأسواق.
ورغم الاضطرابات التي يشهدها سوق الصرف والتردد الرسمي في كبح الدولار، إلا أن إبراهيم الطاهر، الباحث الاقتصادي المقيم في إسطنبول، يرى أن الحكومة لم تفرض أي قيود على السحب النقدي من البنوك، خاصة بالدولار، ولم تفرض أي قيود على عمليات التعامل بالنقد الأجنبي داخل القطاع المصرفي، ولم تسارع إلى إغلاق شركات الصرافة، بل تعاملت مع الأزمة بهدوء أعصاب، مستندة في ذلك إلى احتياطي ضخم من النقد الأجنبي لدى البنك المركزي، وتدفق الإيرادات الدولارية على البلاد، خاصة من الصادرات التي من المتوقع أن تقفز إيراداتها لأكثر من 200 مليار دولار بنهاية العام الجاري، وكذا نشاط السياحة الذي استردّ عافيته وبات يمثل أحد الروافد الرئيسية للإيرادات الدولارية. كما تدفقت الاستثمارات الأجنبية على قطاع العقارات، مستفيدة من تراجع الليرة.
وتفسير الطاهر أيضا للهدوء الحكومي في التعامل مع اضطرابات سوق الصرف الحالي، هو أن هناك سيولة دولارية ضخمة في الأسواق والبنوك ولدى المتعاملين والمستثمرين، أي أن مشكلة الليرة لا تكمن في نقص المعروض من النقد الأجنبي، بل في قلق المدخر على أمواله وزيادة حدة المضاربات على العملات الأجنبية، وارتفاع منسوب حيازة الدولار، وتفاقم ظاهرة "الدولرة"، والتي تعني تخلص المدخر من عملته المحلية لحيازة عملات أجنبية أخرى أكثر استقرارا مثل الدولار واليورو، وربما شراء الذهب الذي بات مخزنا للقيمة.
نفس وفرة الدولار تمتد إلى أسواق السلع أيضاً، وفق الباحث الاقتصادي، فالسلع والمنتجات متوافرة وبكثرة ولم يتأثر عرضها، ولم يشكُ مستهلك من اختفاء سلعة غذائية أو غيرها، وبالتالي فإن أزمة تركيا الحالية ليست أزمة اقتصادية.
فالاقتصاد التركي يحقق معدلات نمو هي الأعلى في العالم، وإيرادات البلاد من النقد الأجنبي تزيد، والحكومة تمكنت من إعادة بناء الاحتياطي الأجنبي خلال الفترة الماضية، ولا تكمن الأزمة الحالية في نقص سلع ومنتجات فهي متوافرة وبكثرة، بل الأزمة هي مالية بالدرجة الأولى، وهذه يمكن احتواؤها بعدة خطوات، وفق الطاهر.
الحكومة لم تفرض أي قيود على السحب النقدي من البنوك، خاصة بالدولار، ولم تفرض أي قيود على عمليات التعامل بالنقد الأجنبي داخل القطاع المصرفي، ولم تسارع إلى إغلاق شركات الصرافة
الأجواء هنا في تركيا تشبه الأجواء التي سبقت تعويم الجنيه المصري في نوفمبر 2016، فقد تدافع آلاف من تجار العملة والمصدرين وموظفي الحكومة وربات البيوت نحو المضاربة في الدولار داخل سوق الصرف التركي، وامتدت المضاربة إلى شريحة كبيرة من المجتمع، بمن فيهم كبار السن والمتقاعدون، وكذا الشباب وخريجو الجامعات الذين استهوتهم لعبة المضاربة في العملات بما فيها العملات الرقمية إذ حققوا مكاسب ضخمة عبر المضاربة بها خلال الشهور الأخيرة.
خارج المحال التجارية والبنوك وشركات الصرافة، تجد أن قفزات الأسعار امتدت إلى قطاعات أخرى، فالزيادات امتدت إلى قطاع آخر هو العقارات الذي يشهد قفزات في أسعار الوحدات والشقق السكنية والإيجارات، كما شهد ظواهر سلبية أخرى، منها توقّف أصحاب العقارات الجديدة عن البيع انتظاراً لمزيد من ارتفاع الأسعار، واختلاق أصحاب العقارات الحجج الواهية لطرد السكان القدامى وتأجير الوحدات بأسعار أعلى.
وأزعجت هذه الخطوة السوريين خاصة الذين ليسوا على اطلاع بالقوانين التركية التي توفر الحماية للمستأجر، وتجعل أي زيادة في الإيجار في حدود 17% سنوياً.
إيجارات السيارات من التي امتد إليها تضخم الأسعار أيضاً، محمد عراقي الجنسية يعمل قائد سيارة في شركة سياحية تؤجر أتوبيسات صغيرة وسيارات "فان" وغيرها للسياح الأجانب، قال لي إن أسعارنا شهدت زيادة وصفها بالكبيرة. وأضاف "نحن بتنا نؤجر السيارات بالدولار وتوقفنا عن التعامل بالليرة، قبل سنوات كنا نؤجر السيارة بـ 350 ليرة في اليوم، أي ما يعادل 100 دولار، وقبيل أزمة العملة التركية وخلال أزمة كورونا كنا نؤجر السيارة بنحو 600 ليرة، الآن يبلغ الإيجار ما بين 100 و120 دولاراً يومياً داخل إسطنبول، يرتفع إلى 200 في الولايات الأخرى، وربما يصل إلى 300 دولار في اليوم.
السعر بات يتحدد حسب قربك أو بعدك من مدينة إسطنبول، وقبلها حسب سعر صرف الدولار في سوق الصرف. حتى أماكن غسيل السيارات داخل محطات الوقود فقد قفز السعر 3 أضعاف خلال الفترة القصيرة الماضية، ولذا قلل الناس من غسل سياراتهم توفيراً للتكلفة، وتوجيه المبالغ المحدودة التي باتت في حوزتهم لتغطية نفقات أخرى أكثر ضرورية مثل الطعام والشراب وإيجار المسكن". ويتساءل مواطن يقف في محطة وقود في منطقة الفاتح بوسط إسطنبول: ما علاقة غسل السيارة بقفزات الدولار؟
المسؤولون الأتراك يستبعدون استمرار زيادة الأسعار لفترة أطول على الرغم من أن معدل الزيادة الحالي عال، حيث يبلغ 21%، ولا توجد خطة لزيادة سعر الفائدة، وهي إحدى الأدوات النقدية المهمة لمكافحة التضخم، ويشيرون إلى أن التضخم بات ظاهرة عالمية، فالمعدل في الولايات المتحدة تجاوز معدل التضخم 6.8%، وهو الأعلى منذ 39 عاماً، وكذا المعدل في الاتحاد الأوربي الذي بات الأعلى منذ 25 سنة، ورغم ذلك يؤكدون على قدرة إدارة البنك المركزي للسياسة النقدية واستهداف معدل التضخم وخفضه لتتراجع معه الأسعار.