يوماً بعد آخر، يتعاظم التحدّي القائم منذ سنوات بين واشنطن الساعية إلى الاحتفاظ بمركزها الاقتصادي الأول عالمياً، والعملاق الصيني الآخذ في التوسّع منذ عقود، والذي تحد من طموحه المتنامي مجموعة من العوامل التي تشكل مخاطر تهدّد الاستراتيجية الصينية الزاحفة بهدوء والتي ضمنت للتنّين تغلغلا متقدما جدا في مختلف الاقتصادات العالمية، من أكثر التكنولوجيات تطورا إلى أبخس السلع في شتى قطاعات الاستهلاك على امتداد الكوكب.
فالحزب الشيوعي الذي يحكم بلدا عملاقا لُقّب بـ"مصنع العالم" لغزارة إنتاجه واتساع نطاقه التسويقي بكل اتجاهات الكرة الأرضية، يكثف تشبيك علاقاته الدولية انطلاقا من مخطط "طريق الحرير" التاريخي، طامحا إلى أن يشاهد العالم صعود الصين مستمرا بلا هوادة.
لكن هل الوقائع الاقتصادية تساند هذه الرؤية؟
في أحدث إشارات الإصرار على المضيّ قُدُما في خوض السباق الاقتصادي العالمي، قال الرئيس شي جين بينغ، إن "الأمة الصينية تسير نحو تجديد كبير للحيوية بوتيرة لا يمكن وقفها"، خلال احتفال الصينيين الأسبوع الماضي بالذكرى المئوية للحزب الشيوعي.
بيد أن المفارقة تكمن في أنه مع بداية تفجّر أزمة وباء كورونا، وتمكّن الصين من السيطرة على العدوى من جهة والمحافظة على النمو من جهة ثانية، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تسجل مئات الآلاف من الوفيات وتعاني ركودا شديدا، كان كثير من المراقبين يتفق مع وجهة نظر الرئيس الصيني، قبل أن يُعيد النظر مجددا في الآونة الأخيرة مع بروز التعافي الأميركي السريع والمفاجئ.
فإذا قدّم الرئيس شي إصلاحات لتعزيز النمو، ولم يتمكن نظيره الأميركي جو بايدن من السير بمقترحاته لتجديد البنية التحتية وتوسيع القوى العاملة، فإن توقعات "بلومبيرغ إيكونوميكس" تشير إلى أن بكين يمكن أن تنتزع المرتبة الأولى من واشنطن بحلول عام 2031.
بيد أن بلوغ نتيجة كهذه لا يزال غير مضمون، لأن أجندة الإصلاح الصينية بدأت تضعُف عمليا، كما تُعطل الرسوم الجمركية وبقية القيود التجارية وصولها إلى الأسواق العالمية والتكنولوجيا المتقدمة، فيما رفعت برامج التحفيز بمواجهة كورونا الديون إلى مستويات قياسية.
والسيناريو الذي يشكل كابوسا بالنسبة للقادة في بكين هو احتمال أن تتبع الصين المسار نفسه الذي سلكته اليابان التي لطالما وُصفت أيضا بأنها منافس محتمل للولايات المتحدة قبل أن ينهار حلمها قبل ثلاثة عقود، إذ إن مزيجا من فشل الإصلاح والعزلة الدولية والأزمة المالية يمكن أن يكون كفيلا بتحجيم الحلم الصيني قبل بلوغ بكين القمة.
وثمة أمر آخر يستند إليه المشككون في القوة الصينية وينطلق من احتمال دأب السلطات على تضخيم البيانات الرسمية المتعلقة بالناتج المحلي الإجمالي، ما يمكن أن يجعل الفجوة أكبر مما تبدو عليه بين أكبر وثاني أكبر اقتصادات العالم.
وتشير "بلومبيرغ" في هذا التقرير، إلى مستوى الدولار الاسمي لقياس الناتج المحلي الإجمالي، وهو عنصر يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره أفضل مقياس للقوة الاقتصادية.
أما في ما يتعلق بمقياس تعادل القوة الشرائية البديل الذي يأخذ في الحسبان اختلافات تكلفة المعيشة وغالبا ما يُستخدم لقياس جودة الحياة، سبق أن قالت الصين منذ سنوات إنها أصبحت فعلا في المرتبة الأولى.
على المدى الطويل، ثمة ثلاثة عوامل تحدّد معدل النمو الاقتصادي: الأول حجم القوة العاملة، والثاني مخزون رأس المال الذي يشمل كل شيء من المصانع وبنية النقل التحتية إلى شبكات الاتصالات، والثالث هو الإنتاجية التي تُقاس بمدى فعالية الجمع بين العاملين الأوّلين. وفي كل من هذه المجالات، تواجه الصين مستقبلا غير مؤكّد.
فإذا ظلت الخصوبة منخفضة، يُتوقع أن تتقلص العمالة بأكثر من 260 مليونا خلال العقود الثلاثة القادمة، أي بانخفاض 28%.
وإدراكا للمخاطر، رفعت الصين عام 2016، الحد الأقصى إلى طفلين لكل عائلة، قبل أن تسمح بثلاثة هذا العام. وبتزامن ذلك مع المبالغة في الإنفاق الرأسمالي، فإن الإنتاجية هي التي تحمل مفتاح النمو المستقبلي، فيما تتوقع "بلومبيرغ" لإنتاجية الصين أن تناهز 70% من مثيلتها الأميركية بحلول 2050، بما يضعها في النطاق النموذجي للبلدان ذات المستوى التنموي المماثل، لكنه يبقيها بعيدة عن المركز الأول عالميا.