"قادرون على تخطي الأزمة الاقتصادية". كان هذا أول التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك يوم 22 أغسطس/آب 2019، عقب أدائه اليمين الدستورية.
لكن بعد أكثر من عامين على حكمه بات الاقتصاد السوداني قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، وانهارت معه القدرة الشرائية للمواطن بعد تهاوي قيمة عملته الوطنية، الجنيه، وارتفاع معدل التضخم ليكون الأعلى في العالم، مع اختفاء الأدوية والسلع الأساسية وعودة الطوابير أمام المخابز، وكذا أمام محطات الوقود رغم وقف الدعم الحكومي المقدم له وزيادة أسعار البنزين والسولار بمعدلات قياسية.
كما تهاوى مستوى البنى التحتية والخدمات الرئيسية في البلاد، بما فيها الصحة والتعليم ومياه الشرب والكهرباء والطرق والجسور.
التضخم الأعلى في العالم، مع اختفاء الأدوية والسلع الأساسية وعودة الطوابير أمام محطات الوقود رغم زيادة سعر البنزين والسولار بمعدلات قياسية
حمدوك القادم من الأمم المتحدة، حيث كان يعمل بها قبل توليه منصبه الرسمي، قدم وعودا كثيرة للمواطن، منها ما قاله فور أدائه اليمين الدستورية، إن "أبرز الأولويات لحكومته العمل على معالجة الأزمة الاقتصادية الطاحنة ومنها قفزات الأسعار".
وفي الذكرى الثانية لثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 التي أطاحت بعمر البشير، تعهد بالوفاء بمطالب الثورة ومنها العدالة، وتحسين الوضع المعيشي للمواطن، وتنشيط الاقتصاد وإصلاح الوضع الاقتصادي.
وكرر هذه الوعود في مناسبات عدة، إلا أن الحصيلة بعد أكثر من عامين هي اقتصاد مترد وخزانة عامة خاوية واختفاء للنقد الأجنبي وأزمة سيولة نقدية، وقفزات في أسعار السلع والخدمات، وزيادة الأعباء الحياتية على المواطن.
أزمات معيشية لا ترحم أحدا، وزيادات قياسية في معدلات الفقر والتضخم والفساد، وتعثر حصول العملاء على مدخراتهم في البنوك، وزيادة الغضب الشعبي وعودة الاحتجاجات إلى الشارع، وربما تكرر السيناريو اللبناني واندلاع ثورة جياع خلال الفترة القادمة.
منذ قدومه لم يراهن حمدوك على إمكانيات الاقتصاد الضخمة وقدرات السودانيين، ولم تبذل حكومته مجهودا لزيادة الإنتاج، خاصة الزراعي والصناعي، أو زيادة الصادرات والحد من الواردات، أو تنشيط الاستثمارات المحلية والأجنبية وتحويلات المغتربين، أو تحفيز قطاعات واعدة مثل السياحة والتصنيع الغذائي واستخراج النفط والمعادن والذهب.
راهن حمدوك على أن التطبيع سيفتح له خزن الدول والمؤسسات المقرضة يغترف منها كيفما يشاء، كما راهن على المنح والمساعدات الدولية
بل راهن على أن التطبيع مع دولة الاحتلال سيفتح له خزن الدول والمؤسسات المقرضة يغترف منها كيفما يشاء، كما راهن على المنح والمساعدات الدولية بما فيها الأغذية والقمح القادم من الولايات المتحدة وإسرائيل، وراهن أكثر على رضا الغرب، خاصة الولايات المتحدة وفرنسا، والدائنين الدوليين.
ولذا راحت حكومته تنبطح أمام طلبات صندوق النقد الدولي القاسية والمهينة والمستفزة، ونفضت حكومته يدها من كل شيء تقريبا تجاه المواطن وحقوقه ودخله ومعيشته وأسواقه وفرص العمل المتاحة.
عومت حكومة حمدوك الجنيه مقابل الدولار دون توافر أي مصادر لوقف المضاربات وتلبية احتياجات السوق الدولارية، وهو ما أدى إلى انهيار العملة المحلية بشكل غير مسبوق.
ألغت الدعم المقدم للمواطن خاصة دعم المحروقات وحررت أسعار الوقود من بنزين وسولار وغيره، ولوحت بالتخلص من دعم الكهرباء في موازنة العام المقبل.
طبقت الحكومة سياسات وجراحات اقتصادية مؤلمة دهست المواطن الفقير والمعدم وقضت على الطبقة الوسطى، جراحات لم يكن هدفها تحسين المستوى المعيشي والتخفيف عن المواطن، بل كان بهدف تطبيق روشتة الدائنين الدوليين وإرضاء هؤلاء الجالسين في مبان زجاجية فخمة في العاصمة واشنطن حيث يقع مقر صندوق النقد والبنك الدوليين وغيرهما من المؤسسات المالية الدولية وبنوك الاستثمار والصناديق الكبرى.
طبقت الحكومة جراحات اقتصادية مؤلمة دهست الفقير وقضت على الطبقة الوسطى، جراحات لم يكن هدفها تحسين مستوى المواطن، بل تطبيق روشتة الدائنين
والحصول على رضا هؤلاء الدائنين ليس بالأمر السهل، حيث لا تتوقف مطالبهم عند تعويم العملة الوطنية، الجنيه، وإلغاء دعم الوقود، فالقائمة تطول، وقف التعيينات الجديدة في الجهاز الإداري بالدولة، خفض رواتب موظفي الدولة.
وقبلها خفض عدد الموظفين، بيع الشركات العامة والحكومية، زيادة الرسوم والضرائب بمعدلات قياسية، زيادة فواتير الكهرباء والمياه والصرف الصحي وغيرها من المنافع العامة، خفض مخصصات التعليم والصحة والاستثمارات العامة والنقل العام، وبعدها خصخصة مرافق التعليم والصحة وسكك الحديد وبيعها للقطاع الخاص، وأخيرا رهن أصول الدولة وبيعها في حال التعثر عن السداد.
اختار حمدوك الحلول السهلة والسريعة وهي التوسع في الاقتراض الخارجي واغتراف مليارات الدولارات من صندوق النقد والمؤسسات الدولية، وبالتالي إغراق البلاد في "وحل" الاستدانة والاقتراض لسداد الديون القائمة وأعبائها، وإغراق الاقتصاد في كابوس مخيف، والمواطن في أزمات معيشية وأعباء تفوق قدرته، وذلك بدلا من أن يختار الطريق الصعب وهو الاعتماد على الذات وتنشيط الاقتصاد الوطني ووقف عمليات النهب والسرقة والفساد، والحد من عسكرة الاقتصاد وتدخل المؤسسة العسكرية في أنشطة البزنس، ووقف نهب الميلشيات لثروات البلاد ومنها مناجم الذهب.
الاحتجاجات الأخيرة في الشارع السوداني تقول إن المواطن تململ من الوضع المعيشي الصعب، واهتزت ثقته في نظام الحكم بشقيه المدني والعسكري، ولم يعد مقتنعا بشماعة تعليق الأزمات الحالية على النظام السابق.