ربما، ليس من الحكمة بمكان، زيادة التضييق على "الدب الروسي" فربما بإغلاق كافة المنافذ، عبر العقوبات والعزلة والتوريط بالمستنقع الأوكراني، يتحول الدب إلى أسد، فيُقدم على ما يلمّح إليه منذ ثماني سنوات، حينما اقترف جريمة ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا الاتحادية، وقت لم نر أكثر، من بعض بعض ما نراه اليوم، من تحالف غربي وإجماع على قتل الحلم القيصري من بوابة الاقتصاد.
فما الذي يمكن اليوم، أن يتفتق عن وهم مستبد مستهتر، يمكنه وبقرار فردي، أن يحوّل القارة الأوروبية إلى كتل نيران على شكل فطر، وإن "عليه وعلى أعدائه" بعد أن أنهكت العقوبات الاقتصاد الروسي، فتهاوى الروبل وهربت الرساميل والاستثمارات، وتتالت العقوبات والحجز والمصادرة، حول العالم.
ثمة سيناريوهات محددة ومحدودة، يمكن عبرها استمرار بوتين روسيا بخططه وعناده، قبل أن يقدم على "المحظور" الذي لن تعرف وتحمد عقباه.
من هاتيك السيناريوهات، السعي لتكوين تحالف أو قطب، إن كان رأسه بموسكو وجسده ببكين، لن تتوقف أطرافه وحتى ذيوله، عند كوريا الشمالية والهند ودول ناشئة، تعاني من السطو الأوروأميركي، وتتطلع ربما، للاستقلال من هاتيك الهيمنة والوصاية التي فرضت، منذ عقود، الدوران فقط بفلك واشنطن.
ولعلّ بتحالف "بريكس" المراوح منذ أول قمة عام 2009، فرصة للتبلور ووقوف الدول الأسرع نموا بالعالم "الصين والهند وروسيا وجنوب أفريقيا" بوجه التحالف الغربي، فنرى، من شرارة الحصار على روسيا ومعاقبتها، تكتلاً يتوسع مع المؤسسين الذين يشكلون ربع مساحة اليابسة و40% من سكان الأرض وربما نصف اقتصادها.
أما السيناريو الآخر، فهو استمرار روسيا بتحمل العقوبات، وصولاً لأهداف الهيمنة والتوسع، على اعتبار أن شرر الأضرار، يتطاير إلى العالم بأسره، وبالمقدمة الدول الأوروبية المحاصرة.
فإن تجاهلنا الآثار على الأسواق العالمية قاطبة، من ارتفاع وندرة الأغذية والمحروقات، رغم عدم بلوغ الحرب يومها الرابع عشر، فربما بالآثار على القارة العجوز، بعض من ترجيح اعتماد هذا السيناريو، وإن على الأجل المنظور، قبل أن تنفجر الأزمة بمن وعلى من هندسها وطبقها ودفع الدب الروسي لاقترافها.
فإن طال زمن الحرب، والأرجح أنه سيطول، فتتعاظم العقوبات المضادة على الدول الأوروبية، وقد يبدو من الخطأ، القياس، رغم الأهمية، على النفط والقمح والغاز والمواد الأولية فقط، لأن العقابيل على القارة الخارجة للتو، من تبعات وباء كورونا، إذ ستعاود الدخول بنفق التضخم وتراجع نسب النمو، فموسكو بالنسبة للدول الأوروبية تشكل 8% من الواردات وتأتي روسيا رابع شريك لصادرات الاتحاد الأوروبي، بنحو 4% من مجمل الصادرات ويقترب حجم التبادل بينهما من 250 مليار دولار قبل وباء كورونا الذي جعله يتراجع لنحو 219 ملياراً.
وهذا جميعه، إن لم نأت على الشعوب وما تدفعه من جوعها، جراء حرب "لا ناقة لها فيها ولا جمل" وحتى، قبل التطرق إلى السيناريو المدمّر والذي لا يمكن تجاهله أو اعتبار التفكير به، ترفاً مبعثه مخاوف دب يختنق.
فتلويح قيصر روسيا، منذ عام 2014 بالسلاح النووي، وقت لم تكن العقوبات التي اعتبرها اليوم، حرباً معلنة، جزءاً يسيراً مما آلت إليه اليوم، يجعل من لجوء روسيا لحرب عالمية ثالثة، احتمالا واردا، تحدده مسيرة الغرق العسكري والدعم الغربي لأوكرانيا بالسلاح وحتى المتطوعين، وآلية الحرب السياسية والإعلامية والاقتصادية.
وربما بوقوع ذلك المحظور، تنتفي الحاجة لأي نبوءات وتحليل، فمن يبقى على قيد الحياة وقتذاك، قد يضظر لمعاودة اكتشاف الدولاب واعتماد المقايضة، كشكل تجاري ممكن.
نهاية القول: لا خلاف بين عقلاء البتة، على جريمة غزو أوكرانيا، ولا من تعدد آراء، حول استهتار فلاديمير بوتين بالقانون الدولي والأعراف وحقوق البشر، وذلك ليس خلال غزوته الأخيرة فقط، بل منذ أفغانستان مروراً بالشيشان فجورجيا، وصولاً لقمة الجرائم بسورية.
بيد أن التعاطي بالعناد والسلاح ذاته، مع مستقوٍ تحركه أوهام الإمبراطورية البائدة، سيحول العالم أو من يتبقى منه، إلى فقراء. وأن يتحول العالم من منظور بوتين إلى غابة، لا يعني أن تتحول الدول الأوروبية إلى حيوانات، تتحرك وفق البوصلة الأميركية أو وفق غرائز السيطرة.
إذ ثمة حلول، لم تزل ممكنة حتى اليوم، يمكن عبرها إبعاد العالم بأسره عن السيناريو الأسوأ، إن بدأت تلك الحلول من تجاهل اعتراف موسكو بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، لا تنتهي عبر الاعتراف بشبه جزيرة القرم ضمن الاتحاد الروسي.
والأكيد، لن يكسب بوتين، إن حصل الاعتراف أو غض العالم الطرف، كما لن تزيده تلك الدبلوماسية، صلفاً وحلماً توسعياً، لأن صفعة تعرية القيصر أمام شعوب العالم، وسقطة خسائر الاقتصاد حتى الآن، إنما ستبعدان روسيا الاتحادية عن حلم القطب الثاني أو القبول الدولي بالبلطجة وتعميق العلاقات، على الأقل لعقود طويلة، وستبعد العالم عن آثار الدخان الأسود الذي بدأ يخرج عن جنون بوتين وتدفع ثمنه الشعوب الفقيرة باضطراد.