بالرغم من انتكاسة أسعار النفط خلال الأسبوع الماضي ومطلع هذا الأسبوع، فإنّ معظم التقديرات العالمية تتوقع لسعر النفط (مزيج برينت ICI) أن يصل إلى مائة دولار أو أكثر خلال هذا العام للبرميل الواحد وخلال عام 2024، لأن كميات الإنتاج الاحتياطية سوف تشهد تراجعاً ملموساً حسب ما يقوله موقع فورتشن (Fortune)، وتبعاً لذلك، فإن سعر الغاز سيشهد أيضاً ارتفاعاً في أسعاره مثلما شهد انخفاضاً مع تراجع أسعار النفط خلال هذا العام.
لقد شهدنا سعر برميل النفط من مزيج برنت يتراجع خلال الأسبوع المنتهي مساء يوم الخميس الماضي إلى أعلى قليلاً من 72 دولاراً، ثم يعود للارتفاع بعد ذلك.
والسبب المباشر كان تراجع مخزون الولايات المتحدة بسرعة لاستخدامه بشكل موسع حفاظاً على عدم رفع سعر البنزين والمشتقات النفطية الأخرى على الأسر الأميركية، وحَدّاً من الميول التضخمية، ولكن الإفراط على ما يبدو في استخدامه هو الذي أحدث الاتجاه المعاكس نحو الارتفاع التدريجي. وقد سجل سعر النفط يوم السبت الماضي ارتفاعاً إلى 75 دولاراً.
ولذلك فإن سوق النفط العالمية ستبقى إلى حد كبير قلقة وغير مستقرة. وسيكون الطلب على النفط محكوماً بعوامل خارجية تؤدي إلى ارتفاعات وانخفاضات في منحنى الطلب ومنحنى العرض، ما يعقد آلية السوق واتجاهاتها. فالسعر يجب أن يكون عند استقرار منحنى الطلب، والعرض هو العنصر المؤثر وليس العنصر التابع.
أما في ظل التنافر والمقارعات السياسية بين جانبي العرض والطلب، فإن السعر أصبح تابعاً لمزاجية حجوم الإنتاج (العرض)، والتلاعب بالمخزون النفطي، واستخدام الوسائل السياسية لخدمة أغراض كلّ بلد.
وقد كان قرار تحالف "أوبك+" بتخفيض كميات النفط المنتجة، وقبول روسيا تخفيض إنتاجها اليومي بمقدار نصف مليون برميل من عشرة ملايين برميل إلى تسعة ملايين ونصف مليون برميل، عنصراً آخر نحو رفع سعر النفط، وإحداث تحول تجاه سعر النفط من الهبوط إلى الاستقرار ثم الارتفاع. وإذا تحول سعر النفط إلى هدف من أهداف السيطرة على التضخم، فسيكون لهذا أيضاً آثار على معدلات النمو في كثير من دول العالم، وبخاصة الدول المصدرة للنفط.
وهذا الأمر يعني أن سعر النفط سوف يعاني من السياسات النقدية التي تتبعها كثير من دول العالم سعياً للسيطرة على الجموح التضخمي في اقتصادياتها. وهذا ينطبق على الصين، والهند، وتركيا، ومصر، ودول عربية أخرى.
إذاً، فقد اكتسب النفط كسلعة استراتيجية وظائف تصحيحية جديدة. فهو وسيلة حرب وفرض عقوبات على الدول المخالفة في مواقفها للولايات المتحدة والناتو. ومن هذه الدول المملكة العربية السعودية، وإيران، وسورية التي ينهب من نفطها يومياً في محافظة دير الزور ما يفوق نصف مليون برميل، ومن غازها ما يقارب 10 ملايين متر مكعب. والعراق لا يزال يسعى إلى الحصول على حصته العادلة من "أوبك" و"أوبك+".
ولم ترشح أخبار واضحة عن اللقاء الذي حصل بين الرئيسين جو بايدن ورئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو عندما التقيا في أوتاوا قبل أيام عدة، خاصة في ما يتعلق بإنتاج كندا النفطي من الرمل الزيتي الموجود لديها بغزارة. وللولايات المتحدة أيضاً مصلحة واضحة في الوصول إلى تفاهم نفطي عبر الحدود مع جارتها الأخرى في أميركا الشمالية، وهي المكسيك.
ولا ننسى أيضاً أن الولايات المتحدة قد خففت من ضغوطها الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية عن فنزويلا، والتي يحكمها رجل تتهمه أميركا والغرب معها بالديكتاتورية، وهو نيكولاس مادورو. والسبب هو أنّ الولايات المتحدة تسعى لخلق كتلة من الدول الأميركية المنتجة للنفط تعطيها بديلاً عن الهيمنة التي فقدتها في دول الشرق الأوسط، وخاصة السعودية.
لكنّ الأمر لا يتسم بالوضوح والقطعية التي ترغبها إدارة الرئيس جو بايدن، فدولة مثل فنزويلا لا يمكن أن تتخلى عن الدول التي وقفت معها لترضي الولايات المتحدة، لكنّها ترغب في الوقت نفسه برفع العقوبات الاقتصادية عنها، ودول الجوار في أميركا الجنوبية تعاني من التضخم العالي، ومن ارتفاع البطالة مثل الأرجنتين، وإلى حدّ ما كولومبيا بعد الطفرة الاقتصادية التي شهدتها قبل الحرب في أوكرانيا، والبرازيل، والبيرو، ودول أصغر مثل بوليفيا، وأوروغواي، وباراغواي، وغيرها.
والآن يثور السؤال: إلى متى سيبقى العالم واقعاً تحت المؤثرات السلبية لمساعي الولايات المتحدة الرامية إلى السيطرة على التضخم. فبالرغم من رفع أسعار الفوائد تسع مرات خلال الأشهر الاثني عشر الماضية. فإن التضخم أصبح ملموساً بشكل أكبر ليس في ارتفاع أسعار الخدمات فحسب، وإنما في أسعار السلع التي يكتوي بها متوسطو الدخل والفقراء في الولايات المتحدة.
ومن ناحية أخرى، نرى أن الدول الغنية في أوروبا مثل المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وحتى إسبانيا، وإيطاليا صارت تعاني من عودة الإضرابات العمالية التي تحتج على ارتفاع تكاليف الحياة عليها من دون ارتفاع موازٍ في الدخول حتى ولو جاء متأخراً عن ارتفاع الرقم القياسي لكلف المعيشة.
هل ستبقى فرنسا تحت رحمة الإضرابات والتي وصلت حدتها إلى المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية (إيمانويل ماكرون). وإذا اجتمعت إرادة الدول الغنية في القارتين الأوروبية والأميركية على تخفيف المساعدات، وإعادة النظر في صناديق التقاعد والضمان الاجتماعي على حساب رفاهية العمال، وحصل المحظور أن أدت سياسات خفض التضخم إلى ارتفاع البطالة ونقص الاستثمار والاستهلاك، فإن المشهد الاجتماعي والسياسي في هذه الدول سيكون مرشحاً لمزيد من العنف، وستشهد سياسات "إفقار الجار" غلواً يؤدي إلى مزيد من الانفصام الاقتصادي بين الدول المتقدمة الصناعية والدول النامية والناشئة.
ما نشهده من عنف في شوارع فرنسا بسبب رفع سن التقاعد سنتين صار الطابع المحدد للعقد الحالي، فإنّ العالم سيكون قد شهد عند دخوله العقد الرابع من هذا القرن (2031-2040) عنفاً وإضرابات وثورات وحروباً داخلية أشد وقعة من التي شهدتها بعض الأقطار العربية إبان فترة الربيع العربي.
ما يفرق الغرب عن باقي العالم، وخصوصاً الشرق الأوسط وأفريقيا، قضايا لم تعد سهلة. ومن هذه القضايا إعادة تعريف العلاقات، وتقبل أوروبا كرهاً شروط الدول النامية، مثلما حصل بين فرنسا والجزائر، والتي أعيدت العلاقات الدبلوماسية بينهما الأسبوع الماضي، بالشروع في إعادة السفراء إلى عاصمة كل منهما، وكذلك اعتذار بلجيكا عن فترة العبودية في الكونغو، والتناطح حول بيع الأسلحة، وغيرها من الأمور التي لا يمكن تحديدها أو حصرها هنا.
إذن فالعالم العربي بمكونيه الآسيوي والأفريقي يسعى إلى تحديد هويته القارية بدلاً من هويته كشرق أوسط غامض التعريف والتحديد الجغرافي والديمغرافي.
والعالم العربي يريد أن يتفاعل مع الدول العظمى الصاعدة، مثل الصين، والهند وروسيا. أما مع أوروبا، فإن هذا سيعتمد إلى حد كبير على الموقف الغربي من العرب، والابتعاد عن التردد في تأييد قضاياهم الأساسية العادلة في فلسطين، وفي التبادل التكنولوجي، وفي تسعير النفط والطاقة، وفي التبادل التجاري والخدمي.
لذلك، فإنّ سياسات النفط الأميركية، ورفع أسعار الفوائد، والتغاضي عن كلّ ما ترتكبه إسرائيل في الأرض المحتلة إلا باحتجاجات على مواقف بعض الوزراء الصهاينة ليس مقبولاً ولا مصدقاً.
العالم الآن مضطرب سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وهو بالفعل عالم مجنون بامتياز، والتهديد بالتجارب الصاروخية في المحيط الهادئ، والتزاحم في مناطق مختلفة في العالم على النفوذ بين الدول العظمى ينطوي على خطر حقيقي باستقبال حرب كونية جديدة.
النفط بجنون تقلباته، وتغير أدواره بين سلعة استراتيجية وأداة تثبيت اقتصادي، ووسيلة المقاطعات الاقتصادية، يعني أن النفط ليس وسيلة لإشعال الحرائق، بل محفزاً على إشعالها.