عادت مستحقات شركات النفط الأجنبية العاملة في السودان إلى الظهور مجدداً، بعد تلويح الحكومة الهندية برفع دعوى قضائية لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد الخرطوم تطالب فيها بمستحقات تعود لإحدى شركات الطاقة المملوكة لها تتجاوز نصف مليار دولار، بينما يواجه البلد الأفريقي ارتباكاً اقتصادية وسياسياً كبيراً.
ونقلت وكالة الأنباء الهندية مؤخراً، عن مسؤولين في وزارة الدولة الهندية للنفط والغاز الطبيعي، قولهم إن السودان يدين لشركة النفط والغاز الهندية "أو إن جي سي فيديش" بـ 560 مليون دولار عبارة عن مستحقات نفط غير مسددة وتكلفة خط أنابيب الذي بنته الشركة في السودان.
وتعمل الشركة الهندية في السودان منذ عام 2003. ووفق الوكالة الهندية، لم يدفع السودان منذ عام 2011 للشركة الهندية مقابل النفط الذي اشتراه، كما لم تتقاضَ الشركة مقابل خط الأنابيب البالغ طوله 741 كيلومتراً، والذي بنته من الخرطوم إلى بورتسودان (شرق).
وقال وزير النفط السوداني السابق عوض جادين لـ"العربي الجديد" إنّ "عدم التزام وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي بسداد المبلغ المذكور للشركة الهندية يعتبر إخلالاً بالعقد المبرم والذي يسمح للشركة باللجوء للتحكيم الدولي ومقاضاة السودان للحصول على مستحقاتها، خصوصاً أنّ الحكومة الانتقالية لا تملك أموالاً لسداد هذه الديون".
وأضاف جادين أنّه "يمكن أن تتفاوض الحكومة الانتقالية مع نيودلهي وطرح خيارات لحل المشكلة، إما بإعادة جدولة الدين أو طرح مربع امتياز تعديني للذهب للشركة نظير إمهالها في سداد الديون المستحقة".
وبررت مصادر تحدثت مع "العربي الجديد" مقاضاة الشركة الهندية لحكومة السودان بصفتها الاعتبارية، لأن العقود أبرمت بين شركة النفط التابعة للحكومة الهندية وبين حكومة السودان آنذاك، وبالتالي فهي مدعومة بضمانات سيادية.
وقال إسحاق جماع، الوزير الأسبق للنفط، مسؤول شعبة النفط في البرلمان المنحل، لـ"العربي الجديد"، إنّ الشركة الهندية سبق أن لجأت للتحكيم الدولي في لندن.
وأشار إلى أنّ أساس قضية ديون شركاء الإنتاج بمن فيهم الشركة الهندية "يعود إلى قيام الحكومة في عهد نظام عمر البشير المخلوع باستلاف جزء من خام الشركات بعد انفصال جنوب السودان، ليتم تكريره، إلى جانب نصيب الحكومة من الخام لمقابلة الاستهلاك المحلي المتزايد، ثم اضطرت الحكومة بعد ذلك بسبب تراجع الإنتاج إلى استلاف كامل حصة الشركات دون الالتزام بسداد المستحقات".
وأضاف جماع أنّ "عدم دفع مستحقات الشركة الهندية دفعها إلى اللجوء للتحكيم وفقاً لاتفاقية تقاسم الإنتاج المبرمة بين الأطراف، والتي نصت على أحقية المتضرر اللجوء إلى التحكيم في حال عدم التوصل لاتفاق على جدولة المستحقات".
وحمل وزير النفط الأسبق وزارة المالية وبنك السودان المركزي مسؤولية تأخر دفع مستحقات شركات النفط الأجنبية بحكم توليها أمر دفع هذه الأموال، بينما تتولى وزارة النفط المسؤولية الفنية فقط، داعياً الحكومة الانتقالية للمسارعة في سداد مستحقات الشركة الهندية وغيرها من الشركات الأخرى لوقف التناقص في الإنتاج والذي تلعب الديون المتأخرة دوراً رئيساً فيه.
وفق بيانات صادرة عن الشركة فإن إنتاجها من ثلاث مناطق امتياز في السودان تراجع من 48 ألف برميل يومياً إلى 25 ألف برميل بسبب مشكلة الديون ولعدم تجديد الحكومة السودانية عقد إحدى المناطق.
ولا يبدو أنّ مستحقات شركات النفط ستكون الوحيدة التي تؤرق الحكومة الانتقالية في السودان، وإنما ملف الديون العامة للدولة التي يرى خبراء اقتصاد أنها عادت إلى "نقطة الصفر" رغم إعادة عبد الله حمدوك إلى رئاسة الحكومة بمقتضى اتفاق مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان الشهر الماضي.
وقبل الأحداث الأخيرة بدأت المؤسسات الدولية ومانحين في خطوات لإعفاء السودان من ديونه، إذ قرر صندوق النقد والبنك الدوليان إعفاء البلد مما يقرب من 23 مليار دولار، واعتبرا أنّ هذا أكبر تخفيض للديون تحصل عليه دولة واحدة طوال تاريخ المؤسستين.
لكن حالة الترقب عادت من جديد، إذ أعلنت وزارة الخارجية الأميركية، أخيراً، أنّ السودان بحاجة إلى إحراز مزيد من التقدم قبل أن تستأنف واشنطن صرف المساعدات المعلقة، مشيرة إلى أنّ انسياب المساعدات يعتمد على ما سيحدث في السودان خلال الساعات والأسابيع المقبلة.
ووفق حمدوك، فإنّ ديون السودان بلغت حتى نهاية العام الماضي 60 مليار دولار، 92% منها عبارة عن متأخرات.
وإلى جانب الديون المتراكمة، يعاني السودانيون من أزمات معيشية خانقة وفي مقدمتها الغلاء الفاحش في أسعار السلع والوقود وتدهور الخدمات وتهاوي قيمة الجنيه السوداني، ما أدى إلى تفاقم الفقر.
وتبقى الأزمات المعيشية أحد أبرز أسباب تواصل الاحتجاجات الشعبية. وتتضارب الإحصائيات الحكومية والدولية حول نسبة الفقر في السودان، فبينما تقول تقارير الأمم المتحدة إنّ 46.5 بالمائة من سكان السودان يعيشون دون خط الفقر، تقول دراسة حكومية أجريت عام 2017 إنّ الفقر تراجع إلى 36.1 بالمائة.
وحسب بيانات رسمية، بلغ معدل التضخم في السودان خلال شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، 365.8%، مقارنة بـ387.56% في أغسطس/ آب الماضي.
وقال الخبير الاقتصادي خالد التجاني النور لـ"العربي الجديد" إنّ سلاح العقوبات المفروض على السودان من قبل الدول أو المؤسسات المانحة يدفع المواطن البسيط ثمنه في نهاية المطاف.
وأكد التجاني أنّ "موضوع إعفاء الديون وإن استمر يحتاج إلى عدة سنوات حتى ينعكس على الواقع الاقتصادي والمعيشي"، مضيفاً أنّ "رفع العقوبات وإزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب لم ينعكس على الاقتصاد، باعتبار أنّ التحويلات ما زالت متعثرة".