يتسم القرار النفطي السعودي هذه الأيام بحالة من التناقض الشديد والتحرّك السريع، وهو الأمر الذي يستعصي على الكثيرين فهم أسبابه ومغزاه، خصوصاً أنه يخالف الأعراف النفطية المستقرة لدى المملكة، بل وعلى مستوى العالم. إذ إن زيادة الإنتاج، أو خفضه، تتم بقرار بطيء بطبعه في عالم النفط، قرار يتسم دوماً بالاستقرار النسبي، ويتم بحثه مرتين سنوياً خلال اجتماعات منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك".
وبنظرة إلى القرار النفطي السعودي، نجد أننا أمام إعلان الموقف ونقيضه في فترة قصيرة وبلا مقدمات؛ مثلاً، يتم إطلاق تهديد مُبطن باستخدام سلاح النفط في حال توقيع عقوبات غربية على المملكة لتورّطها في اغتيال الكاتب والصحافي السعودي جمال خاشقجي، ثم نفي الأمر سريعاً، بل والتنصّل من تلميحات بهذا الشأن أطلقها إعلامي وكاتب معروف بقربه من السلطة الحاكمة.
ومن قرار آخر مُعلن بزيادة إنتاج النفط مليونَي برميل بداية هذا الشهر وخلال الشهور الأربعة الماضية استجابةً لضغوط الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشديدة والمتواصلة، ومطالبته بسد الفجوة الناجمة عن فرض عقوبات تقضي بحظر استيراد النفط الإيراني، إلى اتخاذ القرار النقيض وهو قيادة مفاوضات سرية وتحالف دولي في أبوظبي لخفض الإنتاج مليون برميل يومياً.
هكذا يعيش القرار النفطي السعودي هذه الأيام، فهو لا يبقى على حاله حتى خلال فترة زمنية قصيرة.
أمس الأحد، فاجأ وزير الطاقة السعودي خالد الفالح أسواق العالم بتصريحات لافتة من العاصمة الإماراتية كشف فيها أن بلاده، وهي أكبر مصدر للنفط، ستخفض صادراتها النفطية خلال ديسمبر/ كانون الأول القادم، وفي اليوم ذاته تم الكشف عن أن السعودية تقود تحالفاً دولياً لخفض إنتاج "أوبك" بما يصل إلى مليون برميل يومياً.
الخطوة السعودية الأخيرة باتت مستغربة ومُلفتة للنظر، إذ تأتي بعد أيام قليلة من إعلان الرياض زيادة إنتاج المملكة النفطي لضمان استقرار الأسعار عالمياً وعدم تأثرها بالحظر الأميركي الخاص بمنع دول العالم من استيراد النفط الإيراني، وذلك في إطار عقوبات تم تطبيقها اعتباراً من يوم الأحد في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.
ولا ننسى الدور الذي لعبته السعودية لدعم ترامب في معركة انتخابات التجديد النصفي للكونغرس قبل أيام، عبر زيادة الإنتاج النفطي خلال الشهور الماضية، والتي أدّت إلى استقرار أسعار المحروقات من بنزين وسولار في السوق الأميركي، وبالتالي ضمان رضا الناخب الأميركي على سياسات ترامب الاقتصادية.
حتى حلفاء السعودية النفطيون، وفي مقدمتهم روسيا، فوجئوا بإعلان السعودية أمس خفض إنتاجها النفطي نصف مليون برميل وقيادة تحالف دولي لخفض الإنتاج، وهو ما بدا واضحاً في تصريحات لوزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك، قال فيها إن بلاده "لا تعتقد أن سوق النفط تواجه تخمة معروض خطيرة العام القادم وذلك بخلاف رأي السعودية، وإن السوق ربما تواجه تخمة معروض محددة ترجع إلى عوامل موسمية في الأشهر القليلة المقبلة، لكنها ستكون متوازنة بحلول عام 2019، بل وقد يتجاوز الطلب العرض".
إذاً، الموقف الروسي يرفض بوضوح تحركات السعودية الأخيرة. بل إن إعلان السعودية الأخير خفض الإنتاج يخالف ما تم الاتفاق عليه عدة مرات بين الرياض وموسكو من زيادة الإنتاج النفطي، بخاصة في فترة ما قبل سريان العقوبات الأميركية على قطاع النفط الإيراني، كما يتناقض مع عملية التنسيق التي أجرتها السعودية منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي مع كبار المنتجين لتعويض التخفيض المُنتظر بعد بدء سريان العقوبات، وهو ما اعترف به وزير الطاقة الأميركي ريك بيري الذي قال، إن السعودية وأميركا وروسيا على استعداد لزيادة الإنتاج العالمي في الأشهر الثمانية عشر المقبلة لتعويض انخفاض إمدادات إيران وغيرها.
كما أن السعودية تزيد انتاجها النفطي منذ شهور، فقد أعلن ترامب بداية يوليو/تموز الماضي أنه تحدث إلى الملك سلمان، وطلب منه زيادة إنتاج المملكة، بما قد يصل إلى مليونَي برميل يومياً، لوقف ارتفاع الأسعار، فوافق الملك على طلبه.
كذلك، أعلن مصدر في قطاع النفط أن السعودية تعتزم ضخ ما يصل إلى 11 مليون برميل يومياً من الخام في يوليو/ تموز، بعدما اتفقت "أوبك" مع روسيا ودول أخرى حليفة منتجة للنفط على زيادة الإنتاج نحو مليون برميل يومياً.
ساعتها، سارعت إيران وهاجمت القرار السعودي وأعلن مندوبها في الهيئة التنفيذية لمنظمة "أوبك"، حسن أردبيلي، أن "السعودية لا تستطيع زيادة الإنتاج مليونَي برميل يومياً، ولو فعلت ذلك، فمعنى ذلك خروجها من اتفاق أوبك".
السؤال، ماذا تريد السعودية من قرارها المفاجئ الأخير خفض إنتاجها النفطي نصف مليون برميل الشهر المقبل وقيادة تحالف دولي لخفض الإنتاج مليون برميل، وهي الخطوة التي اعترضت عليها روسيا ومنتجون آخرون من داخل "أوبك"؟
هل تريد المملكة أن تُعاقب ترامب والأوروبيين على موقفهم من قضية اغتيال خاشقجي، لأن خفض الإنتاج تترتب عليه زيادة أسعار المنتجات البترولية في الأسواق الغربية، وهو ما يُحرج حكامها ومنهم ترامب أمام الرأي العام، وهذا الأمر مستبعد لاعتبارات سياسية واقتصادية عدة منها علاقة واشنطن بالرياض.
أم أن الخطوة السعودية الخاصة بالخفض المفاجئ للإنتاج هي بغرض تفكيك "أوبك" وإثارة الخلافات بين أعضائها، بخاصة مع رفض دول عدة خفض الإنتاج النفطي، لأن ذلك يؤثر تأثيراً خطيراً على المراكز المالية لهذه الدول، ويؤدي إلى إثارة اضطرابات اجتماعية فيها، حيث أنها تعتمد كلياً على النفط في الإيرادات العامة؟
خفض الإنتاج ليس في مصلحة السعودية لأنها دولة منتجة كبرى للنفط، وتعتمد إيرادات موازنتها العامة كلياً على الذهب الأسود، والمملكة متعطشة إلى الأموال لأغراض الإنفاق ومحاولة احتواء عجز الموازنة العامة، وبالتالي فإن القرار السعودي الأخير مستغرب.
ولمن لا يعلم، فإن هذه القرارات لا يرسمها أو يتخذها وزير النفط السعودي ومعاونوه، كما يظن البعض، بل هو قرار بيد الملك وولي عهده، فهما فقط من يرسم السياسة النفطية ويعطي التعليمات بزيادة الإنتاج أو خفضه، وهما فقط اللذان يعطيان التعليمات لوزير الطاقة لإعلان موقف المملكة في المحافل الدولية، لا سيما في اجتماعات "أوبك".
وبالتالي، نعود ونسأل : ما الرسالة التي تود القيادة السعودية إرسالها من قراراتها النفطية المتناقضة وأحدثها إعلان خفض إمداداتها النفطية نصف مليون برميل يوميا الشهر المقبل؟