عندما اندلعت جائحة كورونا في نهاية العام 2019، انهارت إيرادات العراق من النقد الأجنبي، خاصة أن الدولة تعتمد بنسبة 97% على إيرادات النفط لتمويل الموازنة العامة، وأن جزءا كبيرا من هذه الإيرادات يوجه لتمويل رواتب الجهاز الإداري للدولة والمشروعات الاستثمارية والتنموية المختلفة.
وخلال عامي 2020 و2021، تفاقمت الأزمة المالية في العراق مع تهاوي أسعار النفط والغاز في الاسواق الدولية، وبلوغ سعر البرميل نحو 20 دولارا في بعض الأشهر.
صاحب التهاوي عجز الحكومة عن رفد إيرادات الموازنة العامة بمصادر أخرى ومتنوعة، في ظل زيادة حدة الصراعات والاضطرابات الداخلية وتداعيات كورونا الخطرة، ورغم تعهدات رسمية سابقة بتنويع مصادر الدخل ضمن ما سمي ببرنامج الإصلاح الاقتصادي.
العراق تصنف على أنها ثرية ومن أهم الدول النفطية في المنطقة، حيث تتجاوز صادراتها النفطية 3.3 ملايين برميل في اليوم
وفي سبتمبر/ ايلول 2020، خرج علينا عضو اللجنة المالية في البرلمان العراقي جمال كوجر بتصريح صادم كشف فيه عن توجه الحكومة للاقتراض، من أجل دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين خلال الأشهر المتبقية من العام 2020 وكذلك العام 2021، مؤكدا عدم كفاية العائدات، التي يأتي معظمها من تصدير النفط لمواجهة احتياجات الدولة ومتطلبات الإنفاق.
كان ذلك يبدو أمرا غريبا وملفتا بالنسبة لدولة تصنف على أنها ثرية، وأنها من أهم الدول النفطية في المنطقة، حيث تتجاوز صادراتها النفطية 3.3 ملايين برميل في اليوم، وهو ما يجعلها تقع في مركز متقدم عن دول نفطية أخرى من حيث الإنتاج، منها ليبيا والكويت والإمارات والجزائر وقطر وسلطنة عمان.
ما زاد الأمر تأزما بعد ذلك هو إبلاغ البنك المركزي الحكومة العراقية نهاية العام 2020 عدم قدرته على تمويل الموازنة، وأن البنوك باتت غير قادرة على توفير سيولة للحكومة تمكنها من سداد الرواتب والأجور.
لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث قفزت أسعار منتجات الطاقة في العام الجاري 2022 مع اندلاع موجة تضخمية عالمية وأزمة طاقة حادة، صاحبتها زيادة المخاطر الجيوسياسية على خلفية اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وما اعقبها من حرب اقتصادية روسية غربية شرسة، وهو ما ساهم في حدوث قفزة في أسعار النفط والغاز، وتحسن إيرادات العراق، وزيادة احتياطي البلاد من النقد الأجنبي إلى أكثر من 85 مليار دولار، وهو أعلى مستوى منذ 2003.
رئيس البرلمان يؤكد عدم قدرة الحكومة على دفع الرواتب بعد 2022، وهو ما فتح المجال أمام موجة من المخاوف لدى الموظفين
وهناك توقعات ببلوغ الاحتياطي حاجز المائة مليار دولار مع نهاية العام الجاري، وهو ما يعني حدوث وفرة مالية للموازنة العامة من المفروض أن تنعكس إيجابا على المواطن في صورة خفض أسعار السلع الرئيسية وتحسين الخدمات وزيادة الدعم الحكومي المقدم للسلع التموينية والوقود وغيرها، وزيادة الأجور والرواتب.
ساعتها تنفس العراقيون الصعداء، حيث بات لديهم احتياطي أجنبي كافٍ لسداد أعباء الديون والواردات والرواتب، لكن الحديث الأخير لرئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، عن عدم قدرة الحكومة على دفع رواتب الموظفين بعد انتهاء العام الجاري، فتح المجال أمام موجة من المخاوف لشريحة الموظفين البالغ عددهم 11 مليونا، وهي الشريحة التي تعاني أصلاً من أزمات معيشية ومشكلات اقتصادية بسبب غلاء الأسعار وتأكل القدرة الشرائية وضعف قيمة العملة المحلية وزيادة معدلات البطالة والفقر والفساد.
زاد من منسوب تلك المخاوف تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية خلال الفترة الأخيرة، والقلق من انعكاس ذلك على خطط الحكومة المتعلقة بصرف رواتب موظفي الدولة في المواعيد المحددة دون تأخر.
المشكلة لا تقف فقط عند مخاوف تهاوي أسعار النفط رغم أن التوقعات الحديثة تؤكد احتمال حدوث قفزة في أسعار الطاقة في الفترة المقبلة مع خفض إنتاج دول أوبك، لكن هناك مشكلة أخرى تتمثل في أن هناك حكومة مؤقتة تحكم البلاد منذ شهور، وأن هناك مخاوف من تعطل الرواتب بسبب الأزمة السياسية الراهنة التي يعيشها العراق، في ظل تعثر تشكيل الحكومة الجديدة وإقرار الموازنة لعام 2022.
مشكلة العراق هي أن الحكومات المتعاقبة فشلت في سد أبواب الفساد المستشري في كل ركن من أركان الدولة
إذا كان هذا هو حال واحدة من أكبر الدول النفطية في المنطقة، فماذا عن الدول العربية غير النفطية في ظل مرورها بموجة تضخم غير مسبوقة وأزمة طاقة حادة، وزيادات في كلف الاقتراض الخارجي، وتراجع الإيرادات العامة.
مشكلة العراق هي أن الحكومات المتعاقبة فشلت في سد أبواب الفساد المستشري في كل ركن من أركان الدولة، وفشلت كذلك في إخضاع أموال ونفقات وإيرادات ومزايا الميلشيات والطوائف لرقابة الدولة، كما فشلت في مكافحة عمليات الفساد المالي والإداري وفي مقدمتها النهب وتهريب أموال الدولة للخارج وغسل الأموال وتمويل الارهاب وغيرها من الجرائم المالية.