مع توالي تأكيدات مجلس الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" باقتراب رفعه معدلات الفائدة على أمواله، ثم إصدار وزارة العمل الأميركية بيانات، يوم الجمعة الماضي، توضح إضافة الشركات نحو 467 ألف وظيفة خلال يناير/كانون الثاني، تنتظر البنوك المركزية حول العالم الإعلان عن أول قرار برفع الفائدة الأميركية منذ عام 2018 مع انتهاء اجتماعات منتصف شهر مارس/آذار القادم، بينما تتعلق أنظار المستثمرين بمعدلات العائد على السندات الأميركية، الأكثر أماناً في العالم.
وبعد إصدار بيانات يوم الجمعة الماضي، ارتفع العائد على السندات الأميركية المعيارية لعشر سنوات إلى أعلى مستوياته منذ عام 2019، عشية ظهور وباء كورونا وانتشاره في الولايات المتحدة، مسجلاً 1.93%.
لينقسم المحللون بين فريقين؛ أولهما مندهش لعدم ارتفاع عوائد السندات بالقدر الذي يعكس بصورة حقيقية توقعات رفع 1% إلى 1.5% خلال العام الحالي، بينما يرى الفريق الآخر أن معدلات العائد على السندات اقتربت بالفعل من أعلى مستوياتها، وأن عائد العشر سنوات ربما ينخفض مجدداً تحت الواحد بالمائة.
خلال العامين الأخيرين، أبقت البنوك المركزية، بقيادة أكبرها في واشنطن، معدلات العائد على سنداتها بالقرب من صفر بالمائة
وخلال العامين الأخيرين، أبقت البنوك المركزية، بقيادة أكبرها في واشنطن، معدلات العائد على سنداتها بالقرب من صفر بالمائة، وفي بعض الأحيان تحت الصفر، بينما قامت بشراء ما تصل قيمته إلى تريليونات الدولارات من سندات الخزانة، لتمنع انهيار أسعارها على النحو الذي شهدناه خلال الأزمة المالية العالمية في 2008-2009.
ومع ارتفاع متوسط الأعمار في الاقتصادات الكبرى، يتزايد الطلب على الأصول الآمنة والأكثر سيولة، وهو ما يزيد من الضغط على معدلات العائد ويبقيها عند مستوياتها المتدنية.
وفي مقال نشرته جريدة "نيويورك تايمز" الأسبوع الماضي، أكد تلمون جوزيف سميث، الكاتب المتخصص في الشؤون الاقتصادية، أنّ عدم ارتفاع عوائد السندات رغم ارتفاع معدل التضخم وضخامة عجز الموازنة الأميركية، يرجع إلى تريليونات الدولارات التي ضخها البنك الفيدرالي في الأسواق خلال العامين الأخيرين، بالإضافة إلى ما تمنحه تلك السندات لمستثمريها من الشركات وصناديق التقاعد في الدول الأخرى من عنصر الأمان.
ورغم انتظار ملايين المستثمرين حول العالم ارتفاع عوائد السندات الأميركية خلال الشهور القادمة، يقول الدكتور لاسي هانت، كبير الاقتصاديين لدى شركة إدارة الاستثمارات "هويسنغتون" في مدينة أوستن بولاية تكساس، إنّه لا يجد غضاضة في مخالفة تلك التوقعات، كونه يرى "الاقتصاد الأميركي ضعيفاً بسبب عبء الدين الضخم"، مؤكداً أنّ معدلات الفائدة الحقيقية السلبية تكون عادةً مقدمة لحدوث الركود.
تعد السندات الأميركية من أهم الأدوات الجاذبة للاستثمار الأجنبي إلى الولايات المتحدة، بسبب عوامل السيولة، وكبر حجم السوق
وعلى نفس النهج سار غاري شيلينغ، صاحب ومدير مكتب الاستشارات الاقتصادية الذي يحمل اسمه، والذي توقع "ضعف الاقتصاد الأميركي وتلاشي التضخم المرتفع خلال الفترة القادمة".
وبعيداً عن توقعات ارتفاع العوائد وانخفاضها، تعد السندات الأميركية من أهم الأدوات الجاذبة للاستثمار الأجنبي إلى الولايات المتحدة، بسبب عوامل السيولة، وكبر حجم السوق، بالإضافة إلى نظرة المستثمرين لإقراض الاقتصاد الأكبر في العالم على أنه يوفر أكبر درجات الأمان لاستثماراتهم.
ومع ارتفاع الفوائض الدولارية للدول العربية المنتجة للنفط والغاز خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، استحوذت السندات الأميركية على نصيب الأسد من تلك الفوائض، وبغض النظر عن العائد الذي تدفعه.
ورغم تحول موازنات بعض تلك الدول للعجز، مازالت الدول العربية، بما فيها تلك المقترضة ومنخفضة الأرصدة من احتياطي النقد الأجنبي، تحتفظ بمليارات الدولارات في سندات الخزانة الأميركية.
وتشير أحدث بيانات وزارة الخزانة الأميركية إلى استحواذ السعودية والإمارات والكويت وحدها على أكثر من 200 مليار دولار من السندات الأميركية.
بينما يفرض النظام المالي العالمي على دول العجز، كما هو الحال في مصر والأردن وتونس والمغرب وغيرها، الاقتراض للاحتفاظ بما يطلق عليه "احتياطي النقد الأجنبي" والذي يعاد استثمار النسبة الأكبر منه في سندات الخزانة الأميركية، وإن كان العائد أقل كثيراً من معدل الفائدة الذي تم اقتراض تلك الأموال به.
تشير أحدث بيانات وزارة الخزانة الأميركية إلى استحواذ السعودية والإمارات والكويت وحدها على أكثر من 200 مليار دولار من السندات الأميركية
وأكد مسؤول للاستثمار في أحد أكبر البنوك العربية العاملة في الشرق الأوسط، فضل عدم ذكر اسمه بسبب سياسات التعامل مع الإعلام في البنك الذي يعمل فيه، أن الأمر لا يقتصر على الدول العربية أو الخليجية، حيث إن أغلب بلدان العالم تستثمر كميات ضخمة في السندات الأميركية، وأن ذلك يحدث في بعض الأحيان لأسباب سياسية، كما يظهر في الحالة الصينية.
وأضاف، في تصريحات لـ "العربي الجديد"، أنّ "البنوك في الدول العربية تضطر في بعض الأحيان إلى الاستثمار في السندات الأميركية لتحسين نسب السيولة لديها"، مشيراً إلى مقررات "لجنة بازل 3" التي تفرض على تلك البنوك الاحتفاظ بالأصول مرتفعة السيولة.
ومع تأكيده قرب تحول الدول الخليجية إلى العجز، وإن ارتفع سعر البرميل من خام برنت فوق مائة دولار قريباً، بسبب التحول الواضح باتجاه مصادر الطاقة البديلة، أوضح المسؤول أنّ دروس غزو العراق للكويت عام 1990 ما زالت حاضرة في الأذهان، وهي التي أقنعت الدول ذات الفائض بخطورة الاحتفاظ بالسيولة النقدية داخل حدودها، مضيفاً: "الواقع أنّه لا يوجد حالياً بدائل أمام الدول العربية، ولا أمام أي دولة أخرى، أفضل من الاستثمار في السندات الأميركية".
بدورها، اعتبرت بريهان محمد، المدير السابق بإدارة سوق المال في أحد البنوك العاملة بمصر، أنّ الاستثمارات العربية في السندات الأميركية يغلب عليها الطابع السياسي، "حيث تحاول الولايات المتحدة أن تكون هناك قوة موازنة من السندات مع الحلفاء القريبين للولايات المتحدة لمواجهة ما تمتلكه الصين من تلك السندات".
وأشارت في حوارها مع "العربي الجديد" إلى أن السعودية والإمارات لعبتا هذا الدور بقوة، خاصة خلال فترة رئاسة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والتي شهدت تقارباً كبيراً مع الثنائي الخليجي.
وأوضحت محمد أن استثمارات الصناديق السيادية والبنوك المركزية العربية في السوق الدولية تكون في أغلبها بالدولار، الذي يربط أغلبها عملتهم به.
ومن ثم فإن الاستثمارات الدولارية، بخلاف الحالة مع اليورو أو الين أو أي عملة أخرى، تكون بعيدة عن مخاطر تقلبات أسعار العملات، مضيفةً "وفي هذه الحالة فبالتأكيد يكون الاختيار الأفضل هو سندات الخزانة الأميركية".