دعنا نذهب لأبعد مدى، ونتفق مع المتفائلين القائلين إن صفقة أموال رأس الحكمة البالغ قيمتها 24 مليار دولار ستخفف من حدة أزمة سوق الصرف الأجنبي المضطرب في مصر، وستحد من هزات سوق العملة وقفزات الدولارات أمام الجنيه. وهو ما حدث فعلاً خلال الأيام الماضية، حيث هبط سعر الدولار في السوق السوداء لحاجز الأربعين جنيهاً،
وأن الصفقة تعطي كذلك البنك المركزي المصري فرصة لالتقاط الأنفاس في الحيلولة دون تعرّض العملة المحلية لمزيد من التآكل السريع.
ودعنا نقر بأن تلك الأموال الناتجة عن الصفقة ستخفّض قيمة الدين الخارجي لمصر بنحو 11 مليار دولار، هي قيمة الوديعة الإماراتية التي قررت حكومة أبوظبي التنازل عنها للبنك المركزي المصري والحصول على ما يقابلها بالجنيه المصري.
ودعنا نقر ثانيا بأن أموال صفقة رأس الحكمة، مع وصولها كاملة خلال شهرين كما أعلن، ستعطي الحكومة أيضاً فرصة لالتقاط الأنفاس، وتخفيف الضغوط الشديدة التي تعرّضت لها جراء مرور البلاد بواحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية التي عرفتها خلال العقود الأخيرة، وسد الفجوة التمويلية التي تقدر قيمتها بنحو 17 مليار دولار.
والأهم أنها تعطي الحكومة نصراً، ولو مؤقتاً، في معركة جذب استثمارات خارجية بمبالغ ضخمة، وهي المهمة التي فشلت الحكومات المتعاقبة في تحقيقها خلال السنوات الأخيرة، لدرجة دفعتها إلى إدراج حصيلة بيع الأصول من بنوك وشركات وأراضٍ ضمن بند الاستثمار الأجنبي المباشر، رغم وجود فارق كبير بين بيع الأصول والاستثمار المباشر الذي يوجه لإقامة مشروعات جديدة في الأنشطة المهمة، ومنها الصناعة.
ودعنا نقرّ ثالثا بأن تدفقات خليجية ودولية أخرى في طريقها لخزينة الدولة المصرية واحتياطي النقد الأجنبي، سواء من السعودية أو قطر والصين، وذلك في شكل استثمارات مباشرة، أو شراء أصول من أراض وبنوك، ومنها المصرف المتحد، وشركات مثل وطنية، وصافي، وغيرها، وأن أموالاً أخرى من المتوقع أن تصل من المؤسسات المالية والمانحين الدوليين، وفي المقدمة صندوق النقد والبنك الدوليان والاتحاد الأوروبي.
تأثيرات أموال رأس الحكمة وغيرها من الصفقات المتوقعة ستكون قصيرة الأجل، وأنها لن تعالج المشاكل المزمنة الحقيقية التي يعاني منها الاقتصاد
ودعنا نقرّ رابعا بتأثيرات تلك الأموال والتدفقات الدولارية الضخمة في الاقتصاد المصري، خاصة أنها توفر سيولة لسوق متعطش، سواء داخل البنوك، أو قطاع الأعمال والمستوردين، والأهم على مستوى تلبية احتياجات الدولة لتمويل الواردات وأقساط الديون الخارجية.
لكن في المقابل يجب أن نقرّ بأن معظم تلك الأموال المتدفقة عبارة عن قروض يجب سدادها، أو منح ومساعدات ربما لن تتكرر، وأن تأثيرات أموال رأس الحكمة وغيرها من الصفقات المتوقعة ستكون قصيرة الأجل، وأنها لن تعالج المشاكل المزمنة الحقيقية التي يعاني منها الاقتصاد المصري والموازنة العامة.
فمصر تعاني من دين عام خارجي قياسي وغير مسبوق يتجاوز 165 مليار دولار، وفق الأرقام الرسمية، وفاتورة أعباء هذه الديون ضخمة، ويكفي القول إن مصر مطالبة بسداد 42.3 مليار دولار خلال هذا العام، فماذا عن أعباء السنوات المقبلة بما فيها تلك المستحقة لصندوق النقد وأصحاب السندات الدولية.
وإذا كانت الحكومة قد باعت واحدة من أجمل مواقعها السياحية للإمارات لسداد فاتورة الديون وتغطية جزء من فاتورة الواردات عن هذا العام، فما هو الحال في السنوات المقبلة، ماذا ستبيع من أصول، وماذا عن تخوفات البعض من انتقال الحكومة من مرحلة وحالة بيع الأصول إلى الرهن المباشر لهيئات اقتصادية حساسة ومنها قناة السويس.
وإذا كان هناك خلل كبير في الواردات، البالغ قيمتها نحو 84 مليار دولار في عام 2022، قبل أن تتراجع إلى 72.3 مليار دولار في عام 2023 بسبب القيود الشديدة على عملية الاستيراد وأزمة سوق الصرف، وأن الحكومات المتعاقبة فشلت في حل معضلة تحول مصر إلى أكبر مستورد للقمح والزيوت النباتية في العالم، فماذا عن تغطية فاتورة الأغذية لهذا العام، هل ستواصل الحكومة سياسة اقتراض مليارات الدولارات لشراء الأغذية من الخارج، كما جرى في آخر عامين؟.
على الحكومة اقتناص فرصة تدفق مليارات الدولارات على مصر في الوقت الحالي وعدم تضييعها كما حدث في مرات سابقة، ووضع خريطة لإصلاح الخلل الشديد والمزمن في الاقتصاد الوطني.
خريطة يجري عبرها إعطاء أولوية قصوى لزيادة الصادرات والحد من الواردات، عبر توفير المنتج المحلي الجيد والجذاب والمنافس.
والاهتمام بالاستثمار الأجنبي المباشر، والذي يوجه لقطاعات الإنتاج، وإقامة المصانع والمشروعات الصغيرة والمتوسطة الجديدة وإعادة هيكلة المصانع المتوقفة، والاستثمار بكثافة في تكنولوجيا المعلومات وصناعة الأدوية، واستصلاح الأراضي، وزيادة المساحة المنزرعة بالمحاصيل الاستراتيجية، ومنها القمح والذرة وقصب السكر والعدس والفول والعدس والأرز وغيرها.
فمن الصعب أن تتحمل فاتورة مصر كل تلك المليارات الموجهة لاستيراد تلك السلع الغذائية والاستراتيجية في ظل أسواق عالمية مضطربة وتذبذبات في الأسعار وزيادة منسوب فرض دول منتجة للغذاء قيود على صادراتها من القمح والأرز والذرة وغيرها.
خريطة لا تعتمد على بيع الأصول، والحصول على مزيد من القروض الخارجية، والجري وراء الأموال الساخنة والاستثمار العقاري، فهذا ليس حلاً، الحل يكمن في الاهتمام بالقطاع الإنتاجي من صناعة وصادرات وزراعة وتقنية.