غداً الجمعة، يكون قد مر عام كامل على أخطر قرار اقتصادي تم اتخاذه في تاريخ مصر، وهو تعويم الجنيه المصري أمام العملات الرئيسية، وفي مقدمتها الدولار، والذي نجم عنه انهيار العملة المحلية، بعد أن تركت السلطات سعر الجنيه ليتهاوى في أيام محدودة من 8.88 جنيهات للدولار إلى حاجز العشرين جنيها، قبل أن يعود مستقراً عند 17.6 جنيها.
لن أتحدث هنا عن التداعيات الكارثية لقرار التعويم من تسببه المباشر في انهيار قيمة العملة المحلية، وحدوث قفزات في أسعار السلع ومنتجات الوقود والبترول، وزيادة حدة الفقر والفساد والبطالة، وزيادة أسعار الفائدة في البنوك بشكل يهدد مناخ الاستثمار، أو عن تآكل الطبقة المتوسطة وتحول معظم المنتمين لها للطبقة الفقيرة، فكل هذه التداعيات وغيرها يعرفها رجل الشارع ويلمسها أكثر من أي مسؤول أو متخصص، لكن سأتوقف هنا أمام عدة أرقام تكشف عن فداحة القرار الخطير، والذي يعد الأسوأ، من وجهة نظري، في تاريخ الحكومات المتعاقبة.
الرقم الأول:
يتعلق بحجم الخسارة التي تكبدها الاقتصاد المصري من جراء هذا القرار المشؤوم، والتي قدّرها خبراء اقتصاد مرموقين، منهم وائل النحاس وغيره، بنحو تريليوني جنيه، أي ألفي مليار جنيه. وهذا المبلغ يمثل فارق عجز الموازنة وفوائد الديون العامة التى قفزت بصورة مخيفة، فضلاً عن زيادة الدين العام الخارجي، وارتفاع تكلفة استيراد السلع الأساسية مثل البنزين والسولار والقمح والسكر والزيوت وغيرها.
الرقم الثاني:
يتعلق بذلك الرقم الخطير الذي رصدته موازنة العام المالي الماضي 2016-2017 والتي تم تقديمها للبرلمان لاعتمادها، فقد كشفت الموازنة عن زيادة في المصروفات الحكومية بقيمة مائة مليار جنيه والذي يقارب نصف قرض صندوق النقد الدولي، وأن الجزء الأكبر من المصروفات الإضافية ذهب لتغطية الكوارث الناجمة عن تداعيات قرار التعويم ووصول معدل التضخم إلى مستويات قياسية، مثل ارتفاع تكلفة دعم المواد البترولية، وشراء القمح، ومصروفات الفوائد المستحقة على الديون في الموازنة العامة.
الرقم الثالث:
يتعلق بحجم الديون التي اقترضتها الحكومة عقب قرار التعويم، فبدلاً من أن تفي الحكومة بوعودها المتكررة بخفض عجز الموازنة وتقليص حجم الدين العام، راحت تندفع بسرعة نحو التوسع في الاقتراض المحلي والخارجي.
وبالأرقام، فقد قفز حجم الدين الخارجي لمصر إلى 79 مليار دولار، في نهاية شهر يونيو الماضي، مقابل نحو 61 مليار دولار قبل قرار التعويم مباشرة، أي أن الدين الخارجي زاد بقيمة 18 مليار دولار في نصف عام فقط، وهو مبلغ لم تقترضه مصر في ربع قرن.
وحسب أرقام وزارة المالية، فقد قفز الدين العام سواء الخارجي أو الداخلي إلى 4.58 تريليونات جنيه، حتى نهاية شهر يونيو الماضي فقط، وهي آخر البيانات الرسمية المعلنة، أي خلال ستة أشهر فقط من بدء قرار التعويم، مقابل نحو 3.54 تريليونات جنيه في شهر ديسمبر 2016، بزيادة تفوق التريليون جنيه في عام، وهو مبلغ لم تقترضه مصر طوال فترة حكم مبارك الممتدة لثلاثين عاما.
وقفز الدين العام إلى 124.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعني توجيه الجزء الأكبر من إيرادات الدولة العامة لسداد الديون والأعباء المترتبة عليها من أقساط وفوائد، بدلا من تمويل مشروعات إنتاجية وخدمية تعود بالنفع على المواطن والاقتصاد.
الرقم الرابع:
يتعلق بالدفقات النقدية الخارجية على مصر عقب التعويم، فقبل قرار التعويم راحت السلطات المسؤولة تروّج لمقولة أن التعويم سيساهم في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وزيادة الصادرات وتحويلات المغتربين، ويعيد النشاط لقطاع السياحة، وهو ما يساعد الحكومة في سداد الديون الخارجية.
إلا أنه ورغم مرور عام على قرار التعويم لم نشهد تحسناً ملموساً في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بل ما وجدناه هو تدفق أموال ساخنة على البلاد من قبل مستثمرين أجانب راحوا يندفعون بشدة نحو شراء أدوات الدين الحكومية مثل السندات وأذون الخزانة، والبالغ رصيدها الحالي 18.5 مليار دولار، حسب آخر الأرقام، وذلك بسبب الارتفاع الكبير في أسعار الفائدة الممنوحة عليها والبالغة 20%.
وهذه الأموال الساخنة تعد خطرا على الاقتصاد، كما قلت في السابق، لأن سحبها بشكل مفاجئ في حال حدوث خطر سياسي أو اقتصادي يترتب عليه فقدان ما يزيد على نصف احتياطي البلاد من النقد الأجنبي، كما أن قيمة هذه الاستثمارات الساخنة تعادل فوائد الديون المستحقة على مصر من جراء تعويم العملة.
الرقم الخامس
يتعلق بارتفاع احتياطي النقد الأجنبي إلى 36.53 مليار دولار، في نهاية سبتمبر 2017، والذي يعد أحدث رقم أعلن عنه البنك المركزي، وهو الأمر الذي يتفاخر به متخذو قرار التعويم، حيث اعتبروا الزيادة في الاحتياطي دليلا على صواب قرار التعويم.
إلا أن السؤال التقليدي هنا هو: هل الزيادات المستمرة في صافي الاحتياطي الأجنبي ناتجة عن إيرادات دولارية حقيقية متولدة من قطاعات الاقتصاد الخمسة المعروفة (الصادرات، التحويلات الخارجية، السياحة، الاستثمارات الأجنبية، قناة السويس)، أم بسبب توسع الحكومة في الاقتراض الخارجي وتأجيل سداد ديون مستحقة على مصر بقيمة تبلغ نحو 9 مليارات دولار؟
أظن أن الكل يعرف إجابة هذا السؤال، بمن فيهم رجل الشارع العادي الذي لا يهمه كثيرا مستوى الاحتياطي النقدي قدر اهتمامه بمستوى الأسعار، وماذا سيترتب على الاحتياطي في حال وصوله إلى مستوى 36 مليار دولار.
الرقم السادس:
يتعلق بمستوى التضخم العالي، والبالغ أكثر من 32%، حسب الأرقام الرسمية، فقد نجم عن هذا التضخم حدوث قفزات في الأسعار، وتآكل في المدخرات المحلية، واستمرار هروب المدخرين نحو حيازة العملات الأجنبية على حساب العملة المحلية، حدث ذلك رغم استقرار سوق الصرف، كما أدى التضخم العالي أيضا إلى تهديد مناخ الاستثمار بشكل مباشر، ودفع الاستثمارات الأجنبية إلى العزوف عن دخول مصر، رغم التسهيلات الأخيرة التي منحها قانون الاستثمار الجديد لهم.
ونعود إلى السؤال الأهم: ماذا جنت الحكومة من قرار تعويم الجنيه غير تفاقم الدين العام وعجز الموازنة والخضوع لابتزاز صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المقرضة؟ وماذا جنى المواطن غير الخراب والفقر والذل والحرمان، حتى من أبسط حقوقه المعيشية؟
قد يقول البعض إن قرار تعويم الجنيه أوقف التدهور السريع للجنيه المصري أمام الدولار والعملات الرئيسية وأعاد الاستقرار إلى سوق الصرف الأجنبي. وهذا كلام صحيح، لكن السؤال ماذا عن تكلفة التعويم الفادحة، وماذا عن المليارات التي وعدت الحكومة بتدفقها على البلاد عقب التعويم ولم تأت بعد؟ وماذا عن شلل القطاعات الاقتصادية والخسائر الكبيرة التي تكبدها مناخ الأعمال؟ وماذا عن توقف آلاف المشروعات الاستثمارية بسبب زيادة تكلفة الإنتاج؟
ببساطة، لقد فتح قرار تعويم الجنيه، الباب على مصراعيه، لتكون مصر رهينة لقرارات خارجية يتم اتخاذها في واشنطن، حيث مقر صندوق النقد الدولي، الذي بات هو صاحب القول الفصل في قرارات خطيرة تتعلق بأسلوب إدارة الاقتصاد وكيفية توجيه موارد البلاد وتحديد اتجاهات الأسعار وتوجيه الدعم.