استمع إلى الملخص
- القانون يهدف لمكافحة الغلاء ويشارك الجيش في إقامة معارض لبيع المنتجات الغذائية، لكن يثير تضاربًا في المصالح وصعوبات في الرقابة على منافذ السلع التي يديرها قادة عسكريون.
- يواجه القانون انتقادات دولية ومحلية لعدم معالجته جذور مشكلة ارتفاع أسعار السلع ونقصها، ويُنظر إليه كتعزيز لسيطرة الجيش على الحياة المدنية، مما يثير تساؤلات حول الفصل بين السلطات والحقوق المدنية.
أصدر النظام المصري القانون رقم 3 لسنة 2024، ويقضي بإخضاع جرائم السلع التموينية للقضاء العسكري. وينص القانون الجديد على منح ضباط القوات المسلحة وضباط الصف جميع سلطات مأمور الضبط القضائي والصلاحيات المرتبطة بها والمنصوص عليها في القانون.
في القانون الجديد، يحتفظ مأمور الضبط القضائي من ضباط القوات المسلحة برتبته العسكرية، ويلتزم القوانين والأعراف العسكرية التي تعتمد التنظيم الهرمي للمؤسسة العسكرية. فالرتبة الأقل تأتمر بالرتبة الأعلى، والرتبة الأعلى تأمر الرتب الأدنى، وهكذا تكون الرتبة العسكرية مقدمة على سلطات مأمور الضبط القضائي.
ومن ناحية أخرى، تشارك القوات المسلحة في إقامة معارض دائمة لبيع المنتجات الغذائية بحجة محاربة الغلاء وتنفيذ مبادرة رئيس مجلس الوزراء لخفض أسعار السلع الغذائية.
وتمثل المنافذ العسكرية التابعة للجيش والشرطة 21% من المنافذ التموينية، وفق تصريح وزير التنمية المحلية، ويديرها ضباط برتب عسكرية مختلفة. وبالتالي فإن إخضاع المنافذ التموينية "التجارية" التابعة للجيش والشرطة لرقابة مأموري الضبط القضائي من ضباط القوات المسلحة، هو تضارب مصالح صريح، يغلّ يد مفتشي التموين "المدنيين والعسكريين من الرتب الأدنى" في الرقابة على منافذ السلع التموينية التي يديرها قادة برتب عسكرية رفيعة وتابعون للمخابرات والقوات المسلحة والشرطة.
مبررات واهية
برر رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بالبرلمان، اللواء أحمد العوضي، وهو مقرر اللجنة التي شكلها البرلمان لبحث مشروع القانون وعرضه على المجلس، إصدار القانون الجديد بزعمه أن القانون ليس جديداً، وأن الرئيس الأسبق محمد مرسي أصدر قانوناً مماثلاً في عام 2013، وفق تصريحه لموقع "الحرة" الأميركي. وبالرجوع إلى نص القانون الذي أصدره الرئيس مرسي، ونص القانون الجديد على إلغائه، نجده يختلف تماماً عن القانون الجديد.
من ناحية لأن القانون الجديد مطلق ودائم، أما قانون مرسي فكان مرتبطاً بإجراء دستوري بذاته، وهو الانتخابات التشريعية، ومؤقتاً بالانتهاء من الانتخابات فقط. ثانياً، وهو الأهم، أن قانون مرسي اشترط اختصاص القضاء المدني "العادي" وليس "العسكري" في الفصل في الوقائع التي يحررها ضباط الجيش وغيرهم ممن حاز الضبطية القضائية. إذ نصت المادة الأولى على: "تدعم القوات المسلحة أجهزة الشرطة وبالتنسيق الكامل معها في إجراءات حفظ الأمن، وحماية المنشآت الحيوية في الدولة حتى انتهاء الانتخابات التشريعية".
ونصت المادة الـ 3، على أن "يختص القضاء العادي بالفصل في الوقائع التي حررت عنها هذه المحاضر"، وهو ما لا يذكره رئيس لجنة الدفاع بالبرلمان. أما القانون الجديد، فينص في مادته الرابعة على أن "تخضع الجرائم التي تقع على المنشآت والخدمات التي تسري عليها أحكام هذا القانون لاختصاص القضاء العسكري".
معالجة أمنية فاشلة
ستفشل الحكومة في ضبط أسعار السلع الغذائية من خلال عسكرة الرقابة على الأسواق بالقانون الجديد، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الحكومة تحاول علاج أزمة الأسعار وغياب السلع بالحلول الأمنية، ولم تجرب حلها بزيادة المعروض من السلع في الأسواق وزيادة الإنتاج المحلي وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي. وقد فشلت الحكومة في ضبط الأسعار من خلال "اللجنة العليا لمراقبة الأسعار" التي شكلتها في 8 ديسمبر سنة 2022 بهدف وضع سعر عادل لعدد 15 من السلع الاستراتيجية، ومنها: السكر، والأرز، والدقيق، والمعكرونة، والشاي، والزيوت بأنواعها، والبيض، والدواجن، واللحوم. ورغم عمل اللجنة، ظلت الأسعار ترتفع حتى وصلت إلى ذروتها الحالية، وهي واحدة من أعلى الأسعار في العالم بشهادة مؤسسات دولية.
وما لم ترجع منظومة البطاقات التموينية إلى دورها الجاد في تحقيق جزء مهم من العدالة الاجتماعية وتوازن الأسعار من خلال توفير احتياجات المواطن من السلع الأساسية المحددة والمحدودة في هذه الظروف على الأقل، وهي الخبز والأرز والسكر والزيت، فإن عسكرة الضبطية القضائية وإقحام المؤسسة العسكرية في الرقابة على الأسواق الخالية من السلع لن يحلا أزمة ارتفاع الأسعار في مصر.
وقد فشلت الحلول الأمنية في ضبط سعر السكر، على سبيل المثال، الذي وصل سعره إلى 50 جنيهاً للكيلوغرام، لسبب بسيط هو أن الحكومة تحارب زراعة قصب السكر وتفضل أن تستورد كل سنة 800 ألف طن من السكر بسعر 800 دولار للطن. وكذلك تفعل في القمح وزيوت الطعام واللحوم والأسماك.
منظومة السلع التموينية
من ناحية أخرى، فإن ظاهر القانون يشي بأن منظومة السلع التموينية تستحق الحماية العسكرية لأنها تؤدي دورها في تحقيق العدالة الاجتماعية ودعم الأمن الغذائي، أحد مكونات الأمن القومي وأهم مقومات الاستقرار الاجتماعي بتوفير السلع الغذائية الأساسية للطبقة الفقيرة والمتوسطة بأسعار رمزية.
كذلك فإن المنظومة لا تزال عامرة بالسلع التموينية الـ22 التي كانت توفرها طوال شهور السنة وفي أثناء الأزمات والحروب حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي.
وكانت السلة الغذائية معتبرة وعامرة بالسلع الأساسية، وبينها الخبز والأرز والسكر والزيت والشاي والكيروسين والفول والعدس واللحم المجمد والدواجن وملابس الكساء الشعبي و"البيجامة الكستور" التي نعم بدفئها بعض من الذين عاصروا حقبة الانفتاح، قبل أن تتقزم حتى اقتصرت على السلع الأربع الأولى فقط.
وخضعت مرة أخرى لعمليات "ريجيم" ممنهجة وماكرة لإنقاص الوزن وتخفيض الجودة وزيادة سعرها في الثمانينيات على يد وزير الزراعة يوسف والي، نائب رئيس الوزراء في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، من خلال برنامج الإصلاح الهيكلي، الذي لم يكن له من اسمه نصيب.
وقد شهد البنك الدولي بأهمية منظومة الدعم، الخبز المدعم والبطاقات التموينية، في مصر إبان أزمة الغذاء العالمية في سنة 2007، رغم تقزيمها، في رفع 22% من المصريين فوق خط الفقر وحماية 8% من الشعب المصري من السقوط في براثن الفقر المدقع، فقر الغذاء، وتخفيض نسبة وفيات المواليد الناتجة من سوء التغذية. منظومة التموين الحالية هذه المنظومة فرغت من مضمونها بعد عام 2013 مرة أخرى، وذلك بتخفيض وزن رغيف الخبز من 130 غراماً إلى 90 غراماً وتحديد حصة الفرد بخمسة أرغفة فقط.
وألغي "الدعم العيني" للسلع التموينية، الذي استمر منذ التسعينيات، وكان يوفر لكل فرد 2 كيلوغرام أرز مصري بسعر 1.5 جنيه للكيلوغرام، و2 كيلوغرام سكر بسعر 1.25 جنيه للكيلوغرام، وكيلوغراماً ونصف كيلوغرام زيت طعام بسعر ثلاثة جنيهات للكيلوغرام، في مقابل 10 جنيهات فقط. وحذفت الحكومة 10 ملايين مواطن من المستفيدين من دعم البطاقات التموينية، وخفضت العدد من 73 مليون مستفيد في سنة 2013، ما يمثل نسبة 87% من عدد السكان البالغ 84 مليون نسمة، إلى 63 مليون مستفيد في سنة 2023، ما يمثل 60% من عدد السكان البالغ 105 ملايين نسمة.
وكذلك أوقفت قرار إضافة المواليد الجدد لمنظومة الدعم الذي اتخذه وزير التموين السابق باسم عودة. واقتصر الدعم في نهاية المطاف على "الدعم النقدي" وقيمته 50 جنيهاً مقطوعة، وكانت تعادل ثلاثة دولارات حتى مارس/آذار 2022، انخفضت قيمتها الشرائية إلى ما يعادل الدولار الواحد تقريباً بعد تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار من نحو 16 إلى 48.5 جنيهاً. حتى إن هذا المبلغ أصبح لا يكفي إلا لشراء كيلوغرام سكر واحد بسعر 12.6 جنيهاً، وزجاجة زيت سعة 800 ملليتر بسعر 30 جنيهاً وصابونة تواليت وزن 125 غراماً بسعر 7.5 جنيهات.
وبالتالي، فقد جاء القانون متأخراً وبعد فوات الأوان، وما تبقى مما كان يسمى "السلع التموينية" لا يستحق أن يصدر بشأنه قانون يزج بالمؤسسة العسكرية وضباط الجيش في أتون الرقابة والتفتيش على 35 ألف مخبز تمويني تنتج الخبز البلدي المدعم، و33 ألف بقالة توزع السلع التموينية، وما يتبع ذلك من تحميل المؤسسة العسكرية وزر تردي منظومة السلع التموينية وتآكلها، وينال من مكانة الجيش التي تراجعت كثيراً بعد توريطه في دولاب الاقتصاد منذ 2013.
في يوم صدور القانون، أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريراً أكدت فيه أن مصر تواجه أزمة مالية متفاقمة وارتفاعاً كبيراً في أسعار المواد الغذائية، فضلاً عن الانكماش الاقتصادي المستمر منذ سنوات عدة، فيما حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي ردت باستمرار على المعارضة والانتقادات من خلال مضايقة وسجن منتقدي خياراتها السياسية والاقتصادية التي أدت إلى اتساع الفقر والديون الخارجية غير المسبوقة، وكذلك الذين انتقدوا التوسع الكبير في مشروعات الشركات العسكرية العملاقة وغير الشفافة.
واعتبرت المنظمة الدولية القانون ترسيخاً لسيطرة الجيش على الحياة المدنية، واستراتيجية لاحتواء السخط المتزايد على إخفاقات الحكومة المصرية الذريعة في دعم الحقوق الاقتصادية والسياسية الأساسية وضمانها. وأكدت أن الأزمة المالية في مصر لن تُحَلّ بمحاكمة المزيد من المصريين في محاكمات عسكرية ظالمة، وحبسهم. وهي شهادة من منظمة دولية عريقة تفضح فشل وفاشية سياسات النظام المصري الحاكم.