انقطاعات للكهرباء، مظاهرات عنيفة بسبب ارتفاع فواتير التدفئة، حكومات تسقط، ركود اقتصادي قاتل. كان هذا السيناريو الأسوأ الذي توقعه محللون وسياسيون أوروبيون بعد تقليص روسيا إمداداتها من الغاز الطبيعي لأوروبا إلى أقل من النصف.
لكن كل هذه المشاهد والسيناريوهات السوداء لم تحدث على الأقل بتلك الحدة المتوقعة، بعدما تم تجاوز ذروة الشتاء، بينما مخزونات الغاز الأوروبية ممتلئة أكثر من شتاء العام الماضي، وتراجع أسعار الغاز أقل مما كانت عليه في الصيف الفائت، ما يعني أن أوروبا انتصرت على روسيا في "حرب الغاز".
عقود الغاز الأوروبية عند أدنى سعر في 17 شهراً
وتراجعت العقود الآجلة للغاز الطبيعي في أوروبا لأقل من 50 يورو للمرة الأولى خلال 17 شهرا مع انحسار أسوأ أزمة طاقة في المنطقة منذ عقود.
وانخفضت العقود الآجلة بنحو 6.2% لتصل إلى 48.78 يورو للميغاواط / ساعة، إلى أدنى مستوى خلال اليوم منذ 31 أغسطس/آب 2021. وخسر العقد حوالي 35% حتى الآن هذا العام، لكنه لا يزال أعلى بنحو الضعف عن مستوياته المعتادة في هذا الوقت من العام، بحسب بلومبيرغ.
وهوت أسعار الغاز في أوروبا بأكثر من 80% من ذروتها في أغسطس، بعد خفض إمدادات الغاز الروسية الذي تسبب في تكاليف إضافية في قطاع الطاقة بالقارة العجوز بنحو تريليون دولار، مما أضر باقتصاد المنطقة، ودفع التضخم إلى أعلى مستوياته منذ عقود.
ويدعو ذلك إلى التساؤل كيف تمكنت الدول الأوروبية من تغطية التراجع الحاد في صادرات الغاز الطبيعي الروسي في فترة وجيزة؟ رغم أنها كانت تمثل نحو 40% من احتياجات القارة، أو ما يفوق 150 مليار متر مكعب سنويا.
ومع ذلك حذرت وكالة الطاقة الدولية من أن أزمة الغاز "لم تنته"، في إشارة إلى أن الحظ قد لا يحالف الأوروبيين مجددا في شتاء 2023/ 2024.
طقس معتدل وطلب أقل
لعب الحظ دورا غير متوقع، فأوروبا تشهد طقسا معتدلا وأقل برودة مما اعتادت عليه خلال أعوام طويلة، وساهم ذلك في تراجع الطلب على استهلاك غاز التدفئة والكهرباء.
ووفق وكالة الطاقة الدولية، انخفض الطلب على الغاز في الاتحاد الأوروبي بنسبة 20% في الربع الرابع من عام 2022، مقارنة بالفترة نفسها من 2021.
ولعب تراجع الطلب دورا رئيسيا في انخفاض الأسعار لأقل مما كانت عليه قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير/شباط 2022.
ففي منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي، تراجعت أسعار الغاز في أوروبا إلى أدنى مستوى لها منذ سبتمبر/أيلول 2021؛ بما يصل إلى 9%، وفق وكالة بلومبيرغ.
ولم يكن أكثر القادة الأوروبيين تفاؤلا في الصيف الماضي يتوقعون مثل هذا السيناريو في هذا الشتاء، الذي لم يخل من خروج مظاهرات في فرنسا وبريطانيا وألمانيا احتجاجا على التضخم وارتفاع الأسعار، ولكنها لم تكن بالشكل الذي يؤدي إلى إحداث تغييرات عميقة في سياسات الدول الغربية تجاه الحرب في أوكرانيا، كما كانت تأمل روسيا.
لكن سياسات التوعية للحكومات، وإجراءات التقشف في استهلاك الغاز، سواء بالنسبة للأسر أو الشركات، لعبت هي الأخرى دورا في تقليص الطلب.
ولعب الحظ دوره مرة ثانية عندما تسببت موجة جديدة من وباء كورونا في إغلاقات واسعة بالصين، ما أدى إلى تقليص الطلب على الغاز في أكبر دولة مستوردة له في العالم، وسمح ذلك لأوروبا باستيراد شحنات أكبر كان من الممكن ان تتوجه إلى الصين، أو على الأقل أن تؤدي إلى ارتفاع الأسعار أكثر مما كانت عليه.
إمدادات بديلة
لعبت الولايات المتحدة الأميركية الدور الأبرز في محاولة تعويض نقص الإمدادات من الغاز الطبيعي الروسي عبر الأنابيب، من خلال زيادة صادراتها من الغاز الصخري المسال إلى أوروبا عبر السفن.
فبعدما كانت معظم الصادرات الأميركية من الغاز المسال تتوجه إلى الأسواق الآسيوية، أصبحت أوروبا الزبون الأول للغاز الأميركي المنقول عبر السفن.
ورفعت الولايات المتحدة صادراتها من الغاز المسال بنسبة 8% في 2022، لتبلغ 110 مليارات متر مكعب، استجابة لزيادة الطلب الأوروبي.
إذ استوردت أوروبا نصف احتياجاتها من الغاز المسال من الولايات المتحدة في 2022، وفق موقع "سكاي نيوز".
ولكن زيادة صادرات الغاز الطبيعي عبر الأنابيب، من النرويج والجزائر، ساهمت أيضا في ملء مخزونات الدول الأوروبية.
ورفعت النرويج صادراتها إلى الدول الأوروبية بنسبة 8% أيضا في 2022، أو ما يعادل 9 مليارات متر مكعب، وأزاحت روسيا من صدارة موردي الغاز عبر الأنابيب للقارة العجوز.
الجزائر هي الأخرى رفعت صادراتها من الغاز الطبيعي والمسال إلى مستوى قياسي لتصل إلى 56 مليار متر مكعب العام المنصرم، 80% منها كانت من نصيب أوروبا وحدها، بزيادة ملياري متر مكعب، حظيت إيطاليا بنصب الأسد منها.
وتجاوزت الجزائر روسيا من حيث حجم صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا وأصبحت الثانية بعد النرويج.
كما سعت دول أوروبية لزيادة واردتها من الغاز المسال من إفريقيا خاصة نيجيريا وأنغولا وموزمبيق، التي صدرت أول شحنة لها في 2022.
ورغم محدوديته، إلا أن أوروبا استوردت أيضا كميات من الغاز المسال من ليبيا ودول شرق المتوسط.
كما أجلت دول أوروبية خططها لتقليص استخدامها للوقود الأحفوري في إطار الانتقال الطاقوي وتحقيق الحياد الكربوني، إذ رفعت استهلاكها للفحم، فضلا عن التوسع في استخدام الطاقة النووية، ناهيك عن مواصلة مساعيها لزيادة إنتاج الطاقة النظيفة.
حرب النفط
وإذا كان عام 2022 هو عام "حرب الغاز"، فربما يشهد عام 2023 حرب نفط بين موسكو والاتحاد الأوروبي، بعدما قرر الأخير تسقيف أسعار مشتقات الخام الروسي، ابتداء من 5 فبراير/شباط الجاري.
روسيا لم تبق مكتوفة الأيدي، وهددت بوقف تصدير المشتقات النفطية إلى الدول التي حددت سقفا سعريا.
بل ذهبت أبعد من ذلك، حيث أعلنت أنها ستخفض إنتاجها النفطي نصف مليون برميل يوميا، أو ما يعادل نحو 5% من إنتاجها الإجمالي، في مارس/آذار المقبل، بعد تسقيف الغرب لسعر نفطها.
هذا الإعلان الذي جاء على لسان نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، في 10 فبراير، دفع أسعار النفط للارتفاع في نفس اليوم أكثر من 2%.
ويعتقد خبراء أن ترتفع أسعار النفط فوق 100 دولار للبرميل في العام الجاري مع استمرار التوترات السياسية والأمنية في العالم.
ولكن من المستبعد أن يحدث النفط في 2023 نفس الأزمة التي أحدثها الغاز في 2022، بالنظر إلى سهولة نقله مقارنة بالغاز، الذي يحتاج إلى بنية تحتية معقدة لنقله عبر الأنابيب أو سفن خاصة بعد تمييعه من بلد المنبع، ثم إعادة تغويزه في مصانع خاصة عند وصوله إلى موانئ البلدان المستوردة.
لكن الأسعار ستتأثر بلا شك من فقدان 500 ألف برميل يوميا، خاصة وأن منظمة الدول المصدرة للنفط لا تبدي حماسة في زيادة الإنتاج، ما سيؤدي إلى صعود قوي لأسعار النفط، وقد يدفع واشنطن للضغط مجددا على السعودية ودول الخليج لزيادة الإنتاج.
أما النقطة الأعقد فتتعلق بمشتقات النفط الروسية، خاصة وقود الديزل، فمن الصعب على مصانع تكرير النفط العالمية تعويض النقص في هذا المجال.
فإذا قلصت موسكو إنتاجها بشكل حاد من صادرات الديزل، فمن شأن ذلك رفع الأسعار وخلق أزمة في السوق العالمية، خاصة وأنها أكبر مُصدر للديزل إلى أوروبا، بل إن نصف واردات الديزل الأوروبية تأتي من روسيا.
فالاتحاد الأوروبي، ومن خلفه الولايات المتحدة، عازم على خنق الاقتصاد الروسي وتركيعه للانسحاب من أوكرانيا، بينما تستعد موسكو لتعميق جراح أوروبا بتخفيض إمداداتها من الغاز والنفط ومشتقاته لجعلها تدفع ثمن أزمة الطاقة التي ستلتهب في 2023.
(الأناضول، العربي الجديد)