الحكومات المنتخبة تخشى بشدة الناخب، وترتعد من غضبة الرأي العام، خاصة إذا ما تعلق الأمر بتدهور الوضع المعيشي، وغلاء أسعار السلع الرئيسية، والخدمات، وزيادة التضخم، وتدهور القوى الشرائية، وتآكل العملة الوطنية، وقبلها تعريض النسيج الاجتماعي للخطر.
ولذا تتحرك تلك الحكومات بسرعة لامتصاص هذا الغضب الذي قد يترجم، في حال تجاهله، إلى مظاهرات عارمة في الشارع، كما حدث في دول عدة، مثل فرنسا وبريطانيا، أو عدم منح المواطن تلك الحكومة صوته في أول استحقاق انتخابي، أو تنظيم احتجاجات وإضرابات عمالية.
وهو ما حدث في فرنسا التي تشهد قفزات في أسعار السلع وغلاء المعيشة، منذ اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير/ شباط 2020، وعمق من القفزات زيادة البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة على اليورو 10 مرات على التوالي، وهو ما رفع كلفة الأموال والقروض المصرفية وقروض العقارات وبطاقات الائتمان وغيرها.
على مدى شهورعانى المواطن الفرنسي من أسوأ موجة تضخمية، وزيادات في أسعار سلع رئيسية، مثل الخبز، والأغذية، وإيجارات المساكن
وعلى مدى شهور طويلة عانى المواطن الفرنسي من أسوأ موجة تضخمية، وزيادات في أسعار سلع رئيسية، مثل الخبز، والأغذية، وإيجارات المساكن، والبنزين، والسولار، وغاز الطهي، وغاز التدفئة.
وعاد للواجهة الحديث عن قفزات أسعار الوقود، على خلفية زيادة أسعار النفط والغاز في الأسواق الدولية، وتضييق الخناق على واردات الغاز الروسي، وهو ما أزعج الحكومة التي تتعامل مع زيادة الأسعار والرسوم على أنها قضية سياسية، يمكن أن تنفجر في أي لحظة.
وللتذكير هنا فقد دفعت زيادة الرسوم في عام 2018 حركة السترات الصفراء إلى تنظيم احتجاجات على تردي مستوى المعيشة.
الحكومة الفرنسية لم تقف مكتوفة اليد حيال تصاعد الأزمات المعيشية، ولم تتجاهل معاناة رجل الشارع وتضرب بآلامه عرض الحائط، أو تحاول استفزازه بمواصلة رفع أسعار السلع والضرائب والرسوم.
بل عملت على كبح الأسعار، وإجبار التجار على خفض أسعار السلع الرئيسية من وقود وأغذية، حتى ولو خالف ذلك القوانين والمبادئ الاقتصادية الرأسمالية التي تتبناها الدولة، وتطبيق سياسة الرأسمالية المتوحشة، ومبادئ اقتصاد السوق، وحرية تحديد الأسعار، وإعمال قوى العرض والطلب في الأسواق.
من بين الخطوات التي أقدمت عليها الحكومة الفرنسية تشديد الرقابة على الأسواق والمحال التجارية الكبرى ومحال البيع بالتجزئة، وتهديد كبرى شركات الأغذية بفرض غرامات وعقوبات مالية كبيرة إذا لم تخفض أسعار السلع والمنتجات.
وزير المالية الفرنسي يهدد شركات الأغذية الكبرى بفرض ضرائب عليها إذا لم تخفّض الأسعار
كما هدد وزير المالية الفرنسي برونو لو مير شركات الأغذية الكبرى بفرض ضرائب خاصة عليها إذا لم تخفّض أسعار المواد الخام للمستهلكين الذين يعانون من ارتفاع فواتير الطاقة.
وقبلها طلبت حكومة إيمانويل ماكرون من شركات النفط والموزعين تقديم خصم إضافي من جانبهم لدعم الوقود وخفض الأسعار.
وحالياً، تخطط الحكومة الفرنسية للسماح لمحطات الوقود، البالغ عددها 5800 محطة، ببيع البنزين والسولار بأقل من قيمته، بل والبيع بخسارة، متجاوزة قانوناً يعود لعام 1963، وقالت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، إن القانون سيعلّق لفترة محدودة لـ"بضعة أشهر"، إلى حين استقرار الأسعار.
وفي العام الماضي، ضخت الحكومة أموالاً ضخمة لدعم أسعار الوقود للأسر بشكل مباشر، بكلفة باهظة على المالية العامة. وأعلنت دعم أسعار الوقود بأكثر من ملياري يورو، وقدمت خصماً على البنزين والديزل قدره 15 سنتاً لكل لتر.
وقدمت الحكومة دعما غير مباشر للأسر الفرنسية، حيث كشفت عن خطة لخفض ضرائب بنحو ملياري يورو بالنسبة للأسر متوسطة الدخل خلال 2025، وهي الخطة التي تعهد بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شهر مايو الماضي.
يقابل خفض الضرائب للأسر متوسطة الدخل مطالبات متزايدة بفرض مزيد من الضرائب على الأثرياء
يقابل خفض الضرائب للأسر متوسطة الدخل مطالبات متزايدة داخل الحكومة والشارع بفرض مزيد من الضرائب على الأثرياء، وعلى المؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي.
فرنسا واحدة من بلدان أوروبية كثيرة تحركت حكوماتها بشكل سريع لكبح جماح الأسعار المنفلتة، وتخفيف المعاناة عن المواطن، ولعل تجربة ألمانيا، صاحبة أقوى اقتصاد في القارة، تستحق تسليط الضوء عليها.