عن معركة خفض أسعار الفائدة في الاقتصادات الكبرى

12 ابريل 2024
جيروم باول يغادر مؤتمراً صحفياً في واشنطن، 20 مارس 2024 (تشيب سوموديفيلا/ Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- منذ بداية جائحة كورونا، اتخذت البنوك المركزية العالمية خطوات لرفع أسعار الفائدة ردًا على التضخم المرتفع، نتيجة للتدفقات المالية الكبيرة التي ضختها الحكومات لتخفيف آثار الجائحة.
- الفيدرالي الأمريكي والمركزي الأوروبي قاما بزيادات متتالية في أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، مع وجود خلافات بين مسؤولي البنوك حول التوقيت المناسب لبدء التيسير النقدي وخفض أسعار الفائدة.
- تستمر النقاشات حول جدوى وتوقيت خفض أسعار الفائدة، مع تباين الآراء بين الخبراء ومسؤولي البنوك المركزية، مما يعكس التحديات التي تواجه السياسة النقدية في مواجهة التضخم وتأثيراتها على الاقتصاد العالمي.

منذ ما يقارب عامين ونصف عام تقريبا، عمدت معظم البنوك المركزية حول العالم إلى سياسات رفع سعر الفائدة لمواجهة تسونامي معدلات التضخم المرتفعة، الناجمة عن تلال الأموال التي حقنتها الحكومات في الشرايين الاقتصادية خلال محاولاتها تقليص الأضرار الناجمة عن تداعيات فيروس كورونا.

وخلال تلك الفترة، تبارت البنوك المركزية الكبرى في رفع سعر الفائدة وتطبيق العديد من أدوات السياسة النقدية الأخرى، ومن بينها رفع نسب الاحتياطي القانوني للبنوك التجارية، واستخدام أدوات السوق المفتوحة، ووضع بعض القيود على البطاقات الائتمانية المخصصة للقروض الاستهلاكية وغيرها من الأدوات التي راهنت عليها من أجل كبح جماح التضخم.

ومنذ مارس/آذار 2022، رفع بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة 11 مرة، في محاولة لترويض التضخم الذي سجل قمة 41 عاما، في يونيو/حزيران 2022، عند 9.1%، قبل أن يتباطأ لاحقا قرب 3.7%، ورفع البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة عشر مرات على التوالي، بدأت منذ تموز/يوليو 2022. وتبع أكبر بنكين مركزيين في العالم البنوك المركزية في إنكلترا واليابان والصين وسويسرا وغيرها.

وعلى الرغم من كل هذه الارتفاعات وطول الفترة الزمنية وبوادر الركود التي ضربت بعض الدول الكبرى ومؤشرات اقتراب الركود لدول أخرى، إلا أن الخلافات بين مسؤولي البنوك المركزية حول التوقيت المناسب لبدء مرحلة التيسير النقدي وخفض سعر الفائدة ما زالت هي السمة الأبرز خلال الفترة الحالية.

فبينما تشير بعض المؤشرات إلى أن البنوك المركزية الأوروبية قد تبدأ هذه المرحلة قريبا، تتوالى التحذيرات القادمة من المتخصصين الأميركان بعدم التسرع في خفض الفائدة، خاصة في ظل عدم الوصول إلى معدلات التضخم المستهدفة، حيث انخفض معدل التضخم في منطقة اليورو إلى 2.6% في فبراير/شباط من 2.8% في يناير/ كانون الثاني، ما يظهر استمرار التقدم نحو هدف البنك المركزي الأوروبي البالغ 2%.

ومع ذلك، فإن الرقم الأساسي الذي لا يشمل الطاقة والغذاء والكحول والتبغ ثبت عند 3.1%، هو الأمر الذي اعتبره الأوروبيون تطوراً إيجابياً مع الاختلاف حول كونه كافياً لتحديد موعد الخفض الأول لأسعار الفائدة. وتستمر المباراة النظرية بين المتخصصين في البنوك المركزية الكبرى حول الموعد المناسب لخفض الفائدة، في الوقت الذي تترقب فيه الشركات حول العالم قرارات البنوك المركزية، لا سيما في ظل حالة التباطؤ في المبيعات والنمو خلال العامين الماضيين والتعويل على بداية التيسير النقدي كخطوة منتظرة لتعويض خسائر المرحلة السابقة.

وطبقا لبيانات شركة المعلومات الاقتصادية العالمية التابعة لمجموعة "إيكونومست"، فإن الصين واليابان لا تزالان تمثلان حالة من الاستثناء في دورة التشديد النقدي العالمية، إذ إن أسعار الفائدة في بكين بدأت في التراجع قليلاً، لأن الصين تشهد حالة استثنائية من تراجع التضخم، كما أن بنك اليابان المركزي لا يزال يطبق الفائدة السلبية، وتتوقع المؤسسة أيضًا أن يخرج بنك اليابان من سياسة أسعار الفائدة السلبية في الربع الثاني من العام الجاري.

خلاف عميق على بداية التيسير النقدي

الحقيقة أن الخلاف العميق في تقديرات الموقف المتعلقة بموعد بداية خفض سعر الفائدة ليست كما يبدو ظاهريا بين فريقين أحدهما أوروبي والآخر أميركي، بل حتى داخل البنك المركزي الواحد يوجد العديد من الاختلاف في التوجهات، وعلى سبيل المثال، وفي مطلع العام الحالي، قال مارتينش كازاكس عضو مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، وهو محافظ البنك المركزي في لاتفيا، إن "المركزي سيبدأ في خفض الفائدة عندما يرى أننا بدأنا بشكل مستمر وكبير في تحقيق هدفنا"، مضيفا "يمكنني القول بوضوح إن التوقعات بخفض أسعار الفائدة خلال الربيع أو بداية الصيف، من وجهة نظري، هي توقعات لا تتفق حقيقة مع السيناريو الكلي الذي لدينا". وحذر، من أنه سيكون من الخطأ المراهنة على خفض البنك أسعار الفائدة في النصف الأول من العام المقبل.

وفى نفس التوجه، أشار العضو في مجلس إدارة المركزي الأوروبي روبرت هولتسمان إلى أن قيام البنك بخفض أسعار الفائدة خلال العام الجاري خطوة غير مضمونة، وقد لا تتم قبل نهاية عام 2024 وسط استمرار المخاطر المتعلقة بالتضخم، وشدد على أن التباطؤ الأخير في التضخم يرجع إلى عوامل خاصة مثل التأثيرات الأساسية في أسعار الطاقة، ولا ينبغي أن يؤخذ كإشارة نهائية نحو الوصول إلى المعدلات المستهدفة للتضخم عند 2%.

وفي اتجاه معاكس، ذكر عضو مجلس إدارة المركزي الأوروبي أولي رين، منذ أيام قليلة، أن تقييمه الخاص هو أنه بناءً على التوقعات الحالية، فإن مخاطر السيطرة على التضخم التي قد تنتج عن خفض الفائدة في وقت سابق لأوانه تراجعت بشكل كبير. وبشكل منفصل، ذكر محافظ البنك المركزي الفرنسي فيليروي دي جالو أنه من المرجح أن يخفض البنك المركزي الأوروبي الفائدة في الربيع، أي بين إبريل/نيسان ويونيو/حزيران المقبلين.

أسواق
التحديثات الحية

وامتدت الخلافات الداخلية أيضاً إلى بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي، حيث صرحت عضو مجلس الإدارة ميشيل بومان، الجمعة 5 إبريل/ نيسان الجاري، بأنه من المحتمل أن ترتفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، بدلاً من التخفيضات التي أشار زملاؤها المسؤولون إلى أنها محتملة والتي تتوقعها السوق، وأكدت أن صناع السياسات بحاجة إلى توخي الحذر حتى لا يقوموا بتخفيف السياسة بسرعة كبيرة، وأن نتيجتها المرجحة في الغالب تظل هي أنه "سيصبح من المناسب في النهاية خفض أسعار الفائدة"، على الرغم من أنها أشارت إلى "أننا لم نصل بعد إلى نقطة التخفيض، حيث ما زلت أرى عددًا من المخاطر الصعودية للتضخم".

وفي الاتجاه المعاكس، توقع رئيس الاحتياط الفيدرالي الأميركي جيروم باول، الأسبوع الماضي، أن تبدأ أسعار الفائدة في الانخفاض هذا العام "إذا كانت مؤشرات التضخم تسمح بذلك"، لكنه لم يحدد جدولا زمنيا لخفض الفائدة، وهي الآمال التي قد تتبدد إلى حد كبير بعد الإعلان عن بيانات التضخم في الولايات المتحدة في وقت سابق من هذا الأسبوع، والتي جاءت أعلى من المتوقع.

فاعلية السياسة النقدية في مواجهة التضخم

في الحقيقة، يشير الاستعراض السابق للخلاف بين صناع السياسات النقدية في أميركا وأوروبا إلى ما هو أبعد من الخلاف حول تحديد موعد بداية خفض سعر الفائدة، فالفترة الزمنية التي طبق فيها التشديد النقدي طويلة وقاربت ثلاث سنوات، ولا تزال بيانات التضخم متأرجحة بين الصعود والهبوط ومن دون تحقيق الهبوط المستهدف، ولا تزال الشركات والأفراد يعانون من تداعيات التشديد النقدي علي مستوى الأعمال من ناحية، ومن ناحية أخرى على انخفاض جودة الحياة بصفة عامة، وهو الأمر الذي قد يشير إلى أن فاعلية السياسات النقدية في مواجهة المشكلات الاقتصادية بصفة عامة والتضخم على وجه الخصوص باتت على المحك.

إن تغوّل السياسات النقدية على السياسات الاقتصادية يغذي طموحات الرأسماليين الكبار بالمزيد من تراكم الثروات، بينما يسحب تلك الثروات من صناديق الشركات المتوسطة والصغيرة، ولعل القراءات السريعة لطفرات ثروات الأغنياء خلال العامين الماضيين كافية للتدليل على ذلك، ومن المهم حاليا عدم الانخداع والانجرار حول أحاديث مواعيد خفض سعر الفائدة، بل ربما يكون الأجدر هو بداية مناقشة كيفية تطبيق سياسات اقتصادية بديلة تكون أكثر عدالة.