اعتاد المصريون على مدار عقود طويلة على فكرة أن يتم إشغالهم بتوافه الأمور مع كل فشل يحدث في إدارة أمور حياتهم، التي سُحب منهم حق المشاركة فيها، وسيطرت عليها "جماعة" افترضت في نفسها، وحاولت إقناع الجميع أنها الأفضل والأكثر قدرة على إدارة "كل شيء"، رغم الفشل الواضح الذي أظهرته تلك الجماعة في إدارة "كل الملفات" التي اضطلعت بها ولم توكل إليها، والذي بدا واضحاً في تراجع أغلب المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، بصورة لم يحلم بها ألد أعدائنا.
ورغم نجاح فكرة "بص العصفورة"، التي تحتفظ الحكومات المصرية المتتالية ببراءة الاختراع فيها، في التغطية على العديد من الكوارث الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة، لا يتوقف النظام المصري عن إبهارنا، مرة بحجم الكارثة التي تحدث، وأخرى بحجم "العصفورة" التي يتم إطلاقها، أو تطير وحدها فيتم إلقاء الضوء عليها، لتُخفي وراءها الكارثة، مهما كان حجمها.
الأسبوع الماضي، رأينا العصفورة حين سمعنا بقرار البنك المركزي المصري إقالة رئيس أكبر بنك غير حكومي في مصر، وقرأنا أسباب الإقالة كما جاءت في الخطاب المرسل من البنك المركزي، والذي وقعه نائب محافظ البنك، رغم أهميته وتأثيره المتوقع على البورصة المصرية، التي يمثل سهم البنك التجاري الدولي ما يقرب من 42% من قيمة مؤشرها الرئيسي.
كانت العصفورة هذه المرة من الضخامة بصورة أشفق معها النظام المصري أن تمر دون أن يتم استغلالها في التغطية على كارثة، خاصةً مع ما صاحبها من "عصافير صغيرة"، منها ما يتعلق بطبيعة الممارسات التي تسببت في الإقالة المفاجئة والمهينة لرئيس أنجح بنك في مصر، والتي أرجعها البنك المركزي لـ"ممارسات كان فيها من الانحراف ما يعرض سلامة وسمعة الجهاز المصرفي بالكامل للخطر"، ومنها ما قيل وكتب وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي من كون رئيس مجلس إدارة البنك والعضو المنتدب لإدارته الذي تمت إقالته الوحيد الذي تجرأ على الوقوف أمام تطلعات وتحركات الشركة التي تمتلكها وتديرها زوجة محافظ البنك المركزي، والتي قيل إنها تتعامل مع البنوك بصورة فيها الكثير من تعارض المصالح واستغلال منصب زوجها، فأخذت العصفورة تتضخم وتستحوذ على انتباه الجميع، رغم أنها في الأصل عصفورة صغيرة، لا تتجاوز الغيرة المهنية من طرف قوى ذي سلطة، وطرف آخر يحتقر، عن حق ربما، من لديه سلطة عليه، ويعتبره منعدم الكفاءة، وكل من له علاقة بالقطاع المصرفي المصري يعرف هذا "اللا استلطاف المتبادل" بين الرجلين.
لم يكن ممكناً أن تمر هذه العصفورة بدون استغلالها، فسارع البنك المركزي المصري بالإعلان عن حجم الديون الخارجية، التي قفزت بنهاية يونيو/ حزيران الماضي بنسبة تتجاوز 12% خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، لتصل إلى 123.5 مليار دولار، وهو يعلم أن قليلين سيقلقهم ما في الخبر من علقم، بينما ينعم المتابعون لقصة إقالة رئيس البنك بما فيها من عسل النميمة التي تستهوي أغلب المواطنين، في كل دول العالم، لا مصر وحدها.
ورغم اعتياد البنك المركزي المصري على تأجيل الإعلان عن حجم الدين الخارجي لفترات وصلت لأكثر من تسعة أشهر خلال السنوات الأخيرة، جاء الإعلان هذه المرة قبل مرور أربعة أشهر، استغلالاً للعصفورة، وفي زحام ما أطلق عليه "انتخابات" مجلس النواب، وربما العديد من الأزمات الخارجية التي استحوذت على اهتمام أغلب المواطنين، وعلى رأسها أزمة الرسوم المسيئة للرسول الكريم والتصريحات الاستفزازية المؤيدة لها من الرئيس الفرنسي.
ارتفعت الديون الخارجية في مصر لتثبت للمصريين أنفسهم أن الارتفاعات الأخيرة في قيمة الجنيه المصري لم تكن نتيجة لتحسن الحساب الجاري لمصر أو ميزانها التجاري، وإنما كانت مدعومة بمليارات الدولارات التي تم اقتراضها من صندوق النقد الدولي ومن البنك الدولي ومقابل السندات التي تم بيعها في الأسواق الدولية.
ارتفعت الديون الخارجية التي تلقي بالمزيد من الأعباء على الدولة والمواطنين، رغم ادعاءات الحكومة وأبواقها الإعلامية بالنجاح منقطع النظير لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، ليزداد العبء الملقى على كاهل أبنائنا وأحفادنا، على الرغم من عدم استغلال القروض التي حصلنا عليها في أي مشروعات تساهم في زيادة الصادرات المصرية، أو تخفيف الواردات، أو تخلق فرص عمل بأعداد كبيرة، أو تساعد على خلق فرص لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وهو ما يمكن أن يخفف من كلفة الإقراض الفعلية أو يجعله مقبولاً في الظروف الحالية.
ارتفعت الديون الخارجية، والتي جاء أغلبها بحجة احتياج المواطنين والشركات في مصر لمساعدات بعد ما سببه فيروس كورونا من أضرار للاقتصاد المصري، وعلى رأسها فقدان الكثيرين لوظائفهم وتراجع مبيعات الشركات وتعرض بعضها لخسائر جسيمة، إلا أن معظم هؤلاء لم يحصلوا على دولار واحد من الحكومة المصرية، التي كان أبرز ما قدمته للمواطنين مبلغا يقل عن مائة دولار لنحو 1.6 مليون من العمالة غير المنتظمة، في دولة يقترب تعداد سكانها من 110 ملايين مواطن، جاء معظمه من حساب رعاية العمالة غير المُنتظمة الذي أطلقته الدولة في أعقاب ثورة 25 يناير.
وفي حين يرى وزير المالية المصري أن الحكومة المصرية ليس لديها خيار، وأنها "لا تنظر في الوقت الحالي إلى ارتفاع الديون بقدر تلبية الحاجات الأساسية والحفاظ على الصحة العامة للشعب المصري"، استمرت الحكومة في رفع أسعار الكهرباء، وفرضت رسوماً جديدة على استخراج وتجديد رخص السيارات، وأجبرت المواطنين على دفع غرامات ضخمة على أي مخالفات بناء تمت خلال العقد الأخير، وخفضت وزن رغيف الخبز المدعم، وأجبرت الطلاب الراسبين على دفع غرامات.
ارتفع الدين الخارجي المصري بنسبة 14.79% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وبزيادة 15 مليار دولار، إلا أن الإعلام المصري لم يعط الأمر من الاهتمام عشر ما أعطاه لحادثة البنك التجاري الدولي، ليمر خبر ارتفاع الديون على المصريين مرور الكرام، انتظاراً لكارثة جديدة تأتي، مثل كل مرة، بعصفورتها.