لقد دُرِب الجندي الإسرائيلي على القتل، ويقال إن من وسائل التدريب التي يخضع لها المجندون في إسرائيل، ذكوراً كانوا أم إناثاً، هي وضع حيوان أليف مثل كلب أو قطة داخل كيس من الخيش ويطلب من المُجند أن يتخيل أن هذا ليس حيواناً بل هو شخص عربي أو فلسطيني، ويعطونه سنجة على بارودة، ويطلبون منه طعنه حتى الموت. وهم يغسلون دماغه بأن هذا الطفل الفلسطيني سوف يقتلك إن لم تقتله أولاً، وأن دم ذلك الطفل حِلٌ لك سفكه لأنك إن لم تقتله وهو طفل، فسوف يكبر ويقتلك وهو شاب يافع.
صحيح أن كثيراً من التدريبات التي يخضع لها الجنود في مختلف دول العالم فيها قسوة. وقد رأينا العديد من الأفلام الأجنبية منها والعربية تظهر ضابط التدريب وهو يقسو على المجندين ليخلق منهم رجالاً ونساء أقوياء، ولكن أن يدربوه على قتل الحيوانات الحية، فهذا لم نألفه إلا في الدول الهمجية غير المتحضرة. لقد غسل الإسرائيليون عقول جنودهم ومجنداتهم حتى صاروا بشعين في خُلقهم، وصاروا يصدقون أنهم كذلك ويتصرفون على أنهم كذلك.
إنهم يدرسون مفهوم العنف والقسوة والاستهانة بالآخر على أنها حق مشروع كما تصرف بعض الأنبياء حسب ما هم يقولون ويدعون. فالنبي يعقوب القاسي والعاتي والعنيف حسب الفهم التلمودي، يرد في القرآن على أنه شخص متسامح صبور وذو بصيرة، ويفهم كل ما يحاك حوله، ويترك الأمور تجري في أعنتها حتى يتحقق أمر الله وقضاؤه. وهو رجل مكلوم ابيضّت عيناه من الحزن على يوسف وأخيه. فكيف لرجل بهذه الصفات أن يكون سفاحاً؟
أما النبي موسى العنيف الجبار، فهو قاتل ولا يأبه كما تصوره التوراة، وقد صدرت عام 2018 حسب ما أتذكر رواية للكاتب المغربي حسن رياض بعنوان "أسفار يعقوب الأربعة"، وفي تعليق على الكتاب يقول نزار الفراوي من الرباط إن الرواية الصادرة في بيروت عن المركز الثقافي العربي "تطرق باباً نادراً في السرد العربي". ويتعلق الأمر بتفكيك مقولات الفكر الديني اليهودي في تحريف التعاليم السماوية نحو تبرير التسلط على الشعوب الأخرى وفقاً لفكرة "شعب الله المختار".
ولذلك نرى أن النبي موسى "وكز" أحد الرجلين الذي كانا يقتتلان، وبحسب الآية الكريمة "فوكزه موسى فقتله"، أي دفعه وقتله عن غير قصد ولا نية مبيتة. وهذا ما يسمى في علم الجريمة اليوم Involuntary manslaughter أو القتل بدون قصد أو بدون سبق إصرار. وهذه لا تتفق مع الرواية التلمودية عن ذلك القتل.
وقد رأينا أثر هذه الثقافة السوداء لدى بعض الإسرائيليين تترجم نفسها إلى سرعة في إطلاق الرصاص وقتل الأطفال والأبرياء. وما يدفعهم لذلك هو الاحتقار الدفين للأمم الأخرى (Goyim)، علماً أن المعنى الأصلي لكلمة (Goy) وجمعها (Goyim)، قد يعني عند بعض الإسرائيليين الأمم الأخرى أو أمة اليهود أنفسهم. ويعتبر بعضهم من المتباهين بأنفسهم أن الأمم الأخرى مُسخرة لخدمتهم.
أعرف أنا وكثيرون غيري ممن أتموا دراساتهم بالجامعات الغربية أن كثيراً من الأساتذة الذين درَّسونا كانوا من أتباع الديانة اليهودية. وقد كان يقال لي وأنا طالب أن أحرص ألا آخذ مساقات معهم وأن أتجنب صفوفهم، ولكنني وللحقيقة لم أجد أستاذاً يهودياً يظلمني في العلامات، أو يعاملني بغير مساواة داخل الصف أو خارجه، وقد وجدت هذا صحيحاً حتى من الأساتذة الصهاينة المتعصبين لإسرائيل والذين كانوا لا يتفقون مع رأيي في إسرائيل وفي عدم شرعيتها كدولة ظالمة محتلة.
وكذلك، فإن بعض اليهود يسعون نحو العرب مصالحين لهم. وأذكر أنني لما وصلت إلى واشنطن في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1991 للمشاركة في مفاوضات السلام أن جاءني كاتب يهودي اسمه الفرد ليلينثال وطلب مقابلتي.
وقد كنت وأنا طالب في الثانوية قد قرأت كتابه الموسوم "ثمن إسرائيل" أو بالانكليزية What Price Israel مترجماً للغة العربية. وألح علي في النصح ألا أفاوض "الصهاينة"، فهم ليسوا أهلاً للثقة، وهم لن يفوا بوعودهم ومعاهداتهم، ولا يحق لهم أن يكون لهم دولة على حساب الشعب الفلسطيني، لقد مضى على الكتاب حوالي سبعين عاماً منذ نشره في شيكاغو عام 1953، وما زال يحدث صدى حتى الآن.
إذن في رأيي أن الدماء التي تتدفق على ثرى غزة الطهور وفي مدن ومخيمات غزة والضفة الغربية وقُراها، لا تجعلنا ننظر إلى اليهود نظرة تعميم بهدر دم كل واحد فيهم كما يفعل جيشهم وطائراتهم، وبتأييد أحمق من الأميركان والأوروبيين المتصهينين. والواقع ان استسلام كثير من السياسيين في الغرب لإغراءات المال والنصب والملذات التي يوفرها الصهاينة أمر مخز. ولكن المشكلة أن هؤلاء الواقعين تحت التأثير، سواء عن عقيدة أم عن طمع أو عن ضعف هم الذين يأخذون القرارات المتعلقة باقتصاداتنا، وأموالنا، والهجوم علينا.
آن لنا نحن العرب أن ندرك أن الديمقراطية مهمة، ولكن الأهم هو أن المرشحين الذين يترشحون للمناصب العليا في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في الدول النافذة هم فئة مختارة من بين 3-5% من السكان، والذين ينتمون إلى الأحزاب الرئيسية في هذه الدول.
ونحن في وطننا العربي نتحدث عن المال السياسي وضرورة تجريمه ومتابعته. ولكن ليقل لي أي واحد كيف لأي مرشح في الولايات المتحدة أن ينجح بدون تمويل. وكيف ننسى قصة ما قاله الرئيس الأسبق باراك أوباما حينما علم أن شيلدون اديلسون صاحب كازينوهات القمار الإسرائيلي/ الأميركي قد تبرع بمائة مليون دولار ليمنع أوباما من الفوز بانتخابات الرئاسة، فرد عليه أوباما: يا شيلدون، لو أنك عرضت علي مبلغ المائة مليون دولار لما ترشحت للانتخابات أصلاً.
المال السياسي في الولايات المتحدة يتدخل حتى النخاع في الانتخابات ويصنع النجاح فيها. وكذلك الحال وبدرجة أقل في دول أوروبا. والمال اليهودي سخي في دعم المرشحين من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي. ولعل أجمل اللقطات السينمائية التي توضح تأثير ذلك المال هو المشهد الشهير بين سيناتور أميركي أبيض يخاطب رجل العصابات مايكل كورليوني في فيلم العراب أو Godfather I.
يقول السيناريو: اسمع أيها الإيطالي ذو الشعر اللامع بزيت الزيتون. أريد منك ربع أرباحك كل شهر من أموال كازينوهات القمار، وإلا سأستخدم نفوذي ضدك. فيجيب مايكل كورليوني قائلاً: اسمع جوابي، لن أعطيك شيئاً وافعل ما تشاء.
وبعد فترة، نرى هذا السيناتور وقد أفاق من النوم وبجانبه واحدة من بنات الهوى مذبوحة وتسبح في دمائها، وتصدمه المفاجأة، فيدخل عليه رجال العراب، وينقذونه بعد أن يصوروه، ويعدونه بالتكتم على الجريمة التي ارتكبوها هم، ويصبح طوع بنانهم. ولما أحيل العراب للمحاكمة أمام إحدى لجان الكونغرس، كان هذا السيناتور هو الذي يدافع عنه داخل اللجنة.
لو غيرنا شخصية العراب من إيطالي إلى صهيوني، لكان المشهد أكثر صدقاً. ومعركتنا في غزة، تبدأ من هناك.