استمع إلى الملخص
- **تداعيات الميزانية الهزيلة**: اشتكى الرياضيون من نقص الطعام وسوء ظروف الإيواء، وانتشرت السخرية من الأسرّة المصنوعة من الورق المقوى، وتلوث نهر السين، ومشاكل النظافة في باريس.
- **الأخطاء التنظيمية والأمنية**: تعرضت شبكة الكهرباء والقطارات للتخريب، مما أثر على حركة 800 ألف راكب. حفل الافتتاح شهد تأخيرات وأخطاء مثل رفع العلم الأولمبي بشكل معكوس.
انطلقت فعاليات النسخة الـ33 للألعاب الأولمبية الصيفية في العاصمة الفرنسية باريس يوم 26 يوليو/ تمّوز الماضي بحفل أشبه بالرسوم الكرتونية، ذات طابع الكوميديا الكرنفالية، الأمر الذي يعكس ضعف فرنسا الفاضح في تنظيم المنافسات العالمية، فقد كشفت الساعات القليلة الأولى من هذا الحدث الرياضي عدم قدرة هذا البلد الأوروبي المتقدِّم على محاكاة التجربة القطرية في كأس العالم، واكتفائه بنيل شرف التنظيم عملاً بالمثل القائل "الجود من الموجود".
بحسب تقرير نشرته مؤسّسة الأبحاث حول الإدارات والسياسات العامة (IFRAP) في 22 يوليو/ تمّوز، قُدِّرت الميزانية المخطَّط لها في ملف طلب استضافة الألعاب الأولمبية في عام 2017 بـ 6.2 مليارات يورو (6.73 مليارات دولار)، منها 2.3 مليار يورو (2.5 مليار دولار) من المال العام.
وقبل أيام قليلة من افتتاح أولمبياد 2024، بلغت التكلفة الإجمالية والرسمية للنفقات المرتبطة مباشرة باستضافة هذه الألعاب الصيفية 8.8 مليارات يورو (9.56 مليارات دولار)، وهي أفقر ميزانية منذ أولمبياد أثينا 2004 الذي كلَّف 9.1 مليارات دولار والذي أعقبه أولمبياد بكين 2008 (42 مليار دولار)، لندن 2012 (16.8 مليار دولار)، ريو دي جانيرو 2016 (23.6 مليار دولار)، وطوكيو 2020 (13.7 مليار دولار).
ويبدو أنّ فرنسا وضعت أولمبياد 2024 على ميزان المكاسب والخسائر، وقرَّرت إثر ذلك ألا تنفق ما في الجيب لقلّة ما سيأتيها في الغيب، بعد أن نظرت إلى ما حقَّقه الذين سبقوها في تنظيم الألعاب الأولمبية من مكاسب، فقد حقَّقت لندن إيرادات بلغت 5.2 مليارات دولار فقط، ولم تجنِ بكين سوى 3.6 مليارات دولار.
بطبيعة الحال، ظهرت تداعيات هذه الميزانية الهزيلة، التي لا تليق بمقام مدينة الجنّ والملائكة، بمجرَّد وصول البعثات الرياضية، فقد تذمَّر العديد من الرياضيين من المجاعة التي تتغلغل في المطاعم المخصَّصة لهم، وتحديداً من نقص العديد من الوجبات، خاصة تلك البسيطة التي تحوي كميات عالية من البروتين كالبيض، الأمر الذي يؤثِّر سلباً في أدائهم بالمنافسات. ولوهلة يُشعرنا هذا العجز عن إطعام 15 ألف رياضي، وكأنّ دورة الألعاب الأولمبية تُقام في إحدى الدول الفقيرة بأفريقيا لا في مستعمرِها سابقاً ومستنزف ثرواتها وأحد أكثر البلدان تقدُّماً على وجه المعمورة.
كما امتلأت منصّات التواصل الاجتماعي عن آخرها بمنشورات السخرية والاستهزاء التي أطلقها الرياضيون على خلفية ظروف الإيواء المزرية في القرية الأولمبية، فقد بلغت شكواهم عنان السماء بسبب أسرَّة النوم غير المريحة بتاتاً، لكونها مصنوعة من الورق المقوَّى، وهذا فضلاً عن أعمال السرقة والنهب في القرية الأولمبية، وتلوُّث نهر السين، وعدم إيجاد حلّ للحرارة المرتفعة، ومشاكل نقص النظافة التي تعاني منها عاصمة الموضة، حيث تغرق هذه الأخيرة في القمامة، وتغزوها أسراب الجرذان بشكل مقزِّز ومقرف، يعكس بوضوح عدم كفاية ما رُصِد من أموال لتنظيف العاصمة، وإعدادها لاستقبال الوفود الرياضية المشاركة.
من الواضح أيضاً أنّ الميزانية المرصودة لأولمبياد باريس 2024 لم تتَّسع للحيلولة دون حدوث عمليات التخريب التي أقحمت مدينة النور في ظلام دامس، بعد العبث بشبكة الكهرباء، وشلَّت أيضاً شبكة فرنسا للقطارات السريعة، وتسبَّبت في تعطيل حركة أكثر من 800 ألف راكب، فقد مرَّغ الإخفاق الخطير في ضمان الأمن لأحد أكثر الأحداث الرياضية شهرة في العالم سمعة البلاد في الوحل، وحطَّم الادعاءات الكاذبة لوزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان الذي سبق له أن تبجَّح بامتلاك بلاده أفضل قوات الأمن في العالم، وتباهى بقدرة فرنسا على استضافة العالم دون أيّة مشاكل، علماً أنّ بلاده قد استشرفت مسبقاً عجزها الأكيد عن استضافة الجماهير الغفيرة الراغبة بحضور الأولمبياد، فقد أعلنت الحكومة الفرنسية قبل انطلاق الألعاب بأشهر تخفيض عدد الجماهير التي ستحضر فعاليات حفل الافتتاح إلى 300 ألف بدلاً من 600 ألف، وعلَّقت ذلك على شماعة الأسباب الأمنية، وإذا دلّ ذلك على شيء فهو يدلّ على تفوُّقها في اختلاق الحجج والأعذار لإخفاقاتها.
حرصت المشاكل التنظيمية والتقنية على إخراج حفل الافتتاح في أبشع صورة على الإطلاق، فلم تحسب الجهات المنظِّمة أي حساب لهطول الأمطار الذي تسبَّب في حدوث تأخيرات وتأجيلات في منافسات يوم الافتتاح، وانقطاع التيار الكهربائي عن المكان المخصَّص للإعلاميين.
ولتكتمل الصورة الدميمة لأولمبياد باريس 2024، تحوَّلت لوحة العشاء الأخير، التي تُعدّ حدثاً مهماً في الديانة المسيحية، وذكرى للمسيح مع تلاميذه، إلى لوحة عبثية، تضمّ كل ألوان المثلية الجنسية، في إطار محاكاة ساخرة، أهانت مشاعر الملايين من المسيحيين حول العالم.
كما جرى رفع العلم الشهير للألعاب الأولمبية (ذي الخمس حلقات) بشكل معكوس من قبل الحرّاس، وتقديم بعثة كوريا الجنوبية باسم دولة كوريا الشمالية، الأمر الذي أثار استياء وغضب بعثة سيول الأولمبية.
في الواقع، هذه الأخطاء والسقطات ليست من قبيل الصدفة، بل هي نتاج سوء التنظيم، والنقص في التمويل اللازم للتخطيط والتدريب والتنسيق والإعداد لمثل هذه الأحداث الرياضية العالمية الشهيرة التي لا تحتمل الخطأ.
لم يسبق لأحد أن اشتكى من مثل هذه الفضائح في مونديال 2022 الذي نظَّمته قطر، التي قدَّمت نسخة استثنائية، فريدة ومميَّزة على جميع المقاييس لم يسبق لها مثيل على مدار تاريخ تنظيم بطولات كأس العالم. عند استلامها مهمّة تنظيم الحدث الكروي الأضخم في العالم، لم تسلم قطر من انتقادات الأبواق الإعلامية الفرنسية بخصوص حقوق العمال الأجانب، ولأنّ "كل إناء ينضح بما فيه"، ها هي فرنسا الآن في مرمى الاتِّهامات المدعومة بأدلّة دامغة بشأن التطهير الاجتماعي، المتمثِّل في طرد مشرَّدي عاصمتها، وكذا استغلال المهاجرين غير الشرعيين في بناء المرافق الخاصة بالأولمبياد.
خلاصة القول، هذه حصيلة فضائح أولمبياد باريس 2024 فقط، التي سال لأجلها الكثير من الحبر.