تصطدم قمة مجموعة العشرين التي انطلقت اجتماعاتها، أمس الاثنين، في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، بنظام عالمي غير مستقر، بسبب عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، إذ تثير سياساته هواجس كبيرة لدى القوى الاقتصادية الكبرى، سواء الحليفة أو المناوئة، بينما يشهد العالم توترات اقتصادية وسياسية بالغة التعقيد، ما ينذر بسنوات عصيبة حال تنفيذ ترامب ما روّج له خلال حملته الانتخابية.
وتمثل مجموعة العشرين المؤلفة من 19 دولة، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، 85% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و80% من انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم. وتنعقد القمة التي تستمر يومين، في وقت تشهد الأسرة الدولية انقسامات حول مسألتي الغزو الروسي لأوكرانيا والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ولبنان، فضلاً عن نذر التوتر في بقاع أخرى من العالم، والتي تهدد بانفجار غير محسوب.
وتواجه المناقشات حول التجارة وتغيّر المناخ والأمن الدولي صعوبة بسبب تغيرات حادة في السياسة الأميركية تعهّد ترامب بتطبيقها عندما يتولى الرئاسة في 20 يناير/ كانون الثاني المقبل، بدءاً من فرض الرسوم الجمركية، إلى الوعد بحل تفاوضي للحرب في أوكرانيا.
ومع عدم انتظار دور قوي للرئيس الأميركي جو بايدن، الذي يشارك في القمة قبل شهرين فقط من انتهاء ولايته، يظهر دور محوري للرئيس الصيني شي جين بينغ، وهو الذي حرص على توصيل رسالة شديدة اللهجة إلى إدارة ترامب، عبر لقاء عقده مع بايدن في ليما، يوم السبت الماضي، تضمنت أربعة "خطوط حمراء" لا يمكن لواشنطن أن تتجاوزها في تعاملها مع بكين.
وتطرح القمة اختباراً أكبر للنهج التعددي، في وقت تنذر عودة ترامب إلى البيت الأبيض بانعطافة جديدة نحو الانعزالية والحمائية، مع مخاطر نشوب حروب تجارية، اعتباراً من العام المقبل 2025. وخلال اجتماعه الأخير مع بايدن أرسل الرئيس الصيني رسالة واضحة إلى ترامب مفادها أن "الصين تريد أن تكون صديقة، لكنها مستعدة للقتال إذا لزم الأمر".
ومع استعداد بايدن لمغادرة البيت الأبيض الشهر المقبل، استغل زعيم الصين اجتماع يوم السبت، على هامش قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك) في ليما عاصمة بيرو، فرصة لتوضيح نهجه تجاه ترامب، مشيراً إلى أن الصين والولايات المتحدة لا ينبغي أن تخوضا "حرباً باردة جديدة"، وأن الصراع بينهما ليس حتمياً. لكنه تابع ذلك بتكرار "الخطوط الحمراء الأربعة" للصين، مشيراً إلى أن ترامب يجب أن يتجنب أي تحركات لتقويض قبضة الحزب الشيوعي على السلطة، والتدخل عبر قضايا حقوق الإنسان، واحتواء صعودها الاقتصادي، أو تشجيع الاستقلال في تايوان.
وأشار شي، في بيان بعد الاجتماع، إلى الخطوط الحمراء الأربعة قائلاً إن هذه الخطوط "لا ينبغي تحديها.. هذه هي أهم الحواجز وشبكات الأمان للعلاقات الصينية الأميركية". وأظهر البيان المطول من شي أن الصين تأمل في الأفضل بينما تستعد للأسوأ. وهدد ترامب بفرض تعريفات جمركية بنسبة 60% على السلع الصينية، واستعان بالعديد من المتشددين تجاه الصين لقيادة فريق السياسة الخارجية الخاص به، مما يشير إلى عدم وجود مناطق حساسة محظورة.
قال نيل توماس، زميل السياسة الصينية في مركز تحليل الصين التابع لمعهد سياسة جمعية آسيا، لوكالة بلومبيرغ الأميركية: "يبدو الأمر كما لو أن شي يحاول تثبيت الحالة الحالية للعلاقات بين الولايات المتحدة والصين، حتى مع عجز بايدن عن كبح ترامب.. وهذا يشير إلى أن بكين تشعر بقلق بالغ إزاء عدم الاستقرار بعد تولي إدارة ترامب الرئاسة".
وبينما أشار ترامب إلى اضطرابات تجارية كبرى في المستقبل، فقد أثار أيضاً تساؤلات حول مدى دعم الولايات المتحدة لتايوان، واقترب من إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة تسلا، صاحب المصالح التجارية الكبيرة في الصين.
وفي عام 2023، قال ماسك إن تايوان "جزء لا يتجزأ من الصين"، مما أثار توبيخاً من قادة الجزيرة. كما انتقد شي سياسة الولايات المتحدة المتمثلة في "الفناء الصغير والسياج المرتفع"، وهو مصطلح صاغه مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، لوصف الجهود الأميركية، لضمان عدم قدرة الصين على الوصول إلى التكنولوجيا المتطورة.
ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان التهديد بالتعريفات الجمركية نقطة انطلاق لمفاوضات مماثلة لتلك التي جرت في ولاية ترامب الأولى، أو ما إذا كان الرئيس الجمهوري المنتخب قد أصبح أكثر أيديولوجية في السعي إلى إحباط خصم رئيسي للولايات المتحدة.
وفي قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ، رأى جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك "جيه بي مورغان" الأميركي، تحذيرات ترامب بشأن التعريفات الجمركية وسيلة لجلب الحكومات إلى طاولة المفاوضات، وحثّ الحاضرين على قراءة كتاب الرئيس المنتخب "فن الصفقة".
وقمة العشرين فرصة لأن يعقد الرئيس الصيني محادثات مع المزيد من حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، كما فعل في قمة "أبيك" في بيرو، حيث التقى العديد منهم. وفي اجتماع مع الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، دعا شي الدول إلى تعميق التبادلات والحفاظ على الاستقرار.
لكن الكثير من حلفاء أميركا، لا سيما في أوروبا ينظرون بريبة شديدة إلى الصين. وقال مسؤول ألماني، طلب عدم كشف هويته، وفق رويترز، أمس: "ليست الأمور الجيوسياسية فقط هي التي تسبب لنا القلق، بل ودور الصين الاقتصادي والمالي، البارز للغاية في كثير من القضايا".
كما تشهد القمة اختباراً حقيقياً لقضايا المناخ والعولمة، وإصلاح نظام الحوكمة العالمية، بما في ذلك المؤسسات المالية متعددة الأطراف. كما يأمل الرئيس البرازيلي اليساري لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي يستضيف القمة أن يسجل نقاطاً في الملفات الاجتماعية، وهو المروج لمفهوم "الجنوب الشامل"، والمدافع عن الطبقات الأكثر فقراً، لكن كل هذا قد يتحطم على صخرة الولاية الثانية لترامب.
وتتصاعد المخاوف من تراجع مكافحة الاحتباس الحراري، وتزايد شرذمة الأسرة الدولية، مع تعهّد ترامب المؤيد للطاقات الأحفورية والمعارض للنهج التعددي. وقال أوليفر ستونكل، أستاذ العلاقات الدولية في مؤسسة جيتوليو فارغاس في ساو باولو، وفق "فرانس برس"، أمس: "ندخل بالتأكيد إلى سيناريو عالمي تزداد صعوبة التكهن بالمنحى الذي سيتخذه، غير أنه يترك هامشاً أكبر بكثير لدول الجنوب، للصين وسواها... لوضع رؤيتها الخاصة، لأن النظام القديم على وشك الانهيار".
لكن بايدن الذي تقترب ولايته من نهايتها، حرص على توجيه رسالة إلى خلفه، خلال زيارة قام بها إلى منطقة الأمازون البرازيلية قبيل القمة، إذ أكد أن "لا أحد يمكنه إعادة عقارب الساعة إلى الوراء"، في ما يتعلق بـ"ثورة الطاقة النظيفة".
كذلك تهدف قمة مجموعة العشرين إلى بناء توافق في الآراء بشأن فرض الضرائب على الأثرياء من أجل العمل المناخي وتخفيف حدة الفقر. ولكن صعود الشعبوية في العديد من دول مجموعة العشرين، يزيد من التدقيق حول كيفية إنفاق الأموال العامة.
وفي حين أن مواقف الصين والهند بشأن هذه الضريبة غامضة، تظل واشنطن تعارضها بشدة. وقالت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين لـ"وول ستريت جورنال" في مايو/أيار الماضي إن هذا الإجراء "شيء لا يمكننا التوقيع عليه"، بينما لم يعلق الرئيس الأميركي المنتخب بعد على الاقتراح، ولكن من غير المرجح أن يدعم زيادة الضرائب على الأثرياء، إذ تميزت ولايته الأولى بتخفيضات ضريبية كبيرة، استفاد منها الأثرياء والشركات بشكل أكبر. كما وعد خلال فترته الرئاسية الثانية بخفض الضرائب، ما يشير إلى مواصلته نهجه الذي تبنّاه في فترته الأولى من 2017 حتى 2021.