كلفة إسرائيل على الوطن العربي

27 يونيو 2024
دعوات لإطلاق الأسرى في تل أبيب، 26 يونيو 2024 (جاك غويز/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في بداية مشواره بالوفد الأردني لمفاوضات السلام، تلقى الكاتب دعمًا من ألفرد ليلينثال، الناقد الشديد للصهيونية، الذي شاركه وثائق تكشف نوايا الوفد الإسرائيلي في توسيع الأراضي بدلاً من السعي للسلام.
- التغيرات في فلسطين بسبب الهجرات اليهودية واستثمارات عائلة روتشيلد أثرت سلبًا على الفلسطينيين، مما أدى إلى خسائر في الصناعات والزراعة المحلية وتدهور الوضع الاقتصادي.
- الصراع مع إسرائيل كلف العرب خسائر تفوق المادية، تشمل تفكك الوحدة العربية وخسائر اقتصادية ضخمة، مع تقدير الكلفة الإجمالية بـ20 تريليون دولار، مما يستدعي دراسة معمقة لفهم الأثر الحقيقي لإسرائيل على الوطن العربي.

لما بدأت أشارك عضواً في الوفد الأردني لمفاوضات السلام، اتصل بي قبل الجولة الأولى شخص اسمه ألفرد ليلينثال (Alfred Lilienthal)، الكاتب اليهودي الأميركي المعروف بكتابه "ثمن إسرائيل" (What Price Israel) وكتاب "الجانب الآخر من قطعة النقود" (The Other Side of the Coin). وتذكرت أنني لما كنت طالباً في الثانوية بالعاصمة عمّان اشتريت نسخة من كتاب "ثمن إسرائيل" من بائع صحف على رصيف شارع رئيسي. وقد أثار الكتاب الذي أعجبني نقاشاً مع بعض أساتذتي والطلاب الذين تباينت آراؤهم حوله، وتعددت تحليلاتهم لأهداف الكاتب ومقاصده.
وبالطبع، سارعت لدعوته.

فجاء الرجل وبيده وثائق وكتب. وبعد جلسة امتدت لأكثر من ساعتين. أدركت أن مقصده الأساسي كان تحذيري من الوثوق بالوعود التي سيقدمها لنا الوفد المفاوض الإسرائيلي، مؤكداً أن هؤلاء كلهم من خريجي البروتوكولات الصهيونية، وأنهم لا ينوون عقد سلام مع أي جهة عربية أو فلسطينية، بل يخططون لتوسعة إسرائيل وتحقيق حلمهم بدولة تمتد من النيل إلى الفرات.

والواقع أنّ الرجل كان صاحب فكر، وليس مجرد شخص غوغائي، أو أنه عضو في جمعية خداع العرب، بل هو محامٍ وكان في بدايات عهده مناهضاً للشيوعيين، وناشطاً سياسياً. وبعد خدمته في الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية، زار القدس وهيمن عليه ما رآه من تنوع في الديمغرافيا، وتسامح في المعاملة، وتداخل بين الناس. ومن هنا رأى في الحركة الصهيونية تهديداً لهذا الوضع القائم المتميز، وصار ناقداً شديداً لها.

اشترى كثير من أغنياء يهود أراضي مزارعين لبناء الكيبوتز (Kibbutz) أو المستوطنة الزراعية، أو المستعمرة الزراعية. وقد أنشئت أول مستعمرة من هذا النوع عام 1910 واسمها دغانيا (Dagania)

لكن، لو عدنا إلى ما سبّبه المهاجرون اليهود من الصهاينة من منافع لرأينا أنها تقل كثيراً عن المضار التي أتت معهم. وقد قامت دولي روتشيلد أو دوروثي دي روثشايلد زوجة هنري روثشايلد، صديق وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور، باستخدام أموال الأسرة الغنية لشراء أراضٍ في القدس، منها ثلاث قطع أقيم عليها مبنى الكنيست الإسرائيلي، ومبنى الجامعة العبرية، ومستشفى هداسا. وقد مكنت هذه الأبنية اليهود المهاجرين إلى فلسطين من التعلم، بخاصة اللغة العبرية، ومن الحصول على الرعاية الصحية المتميزة، والاستقرار بالقدس الغربية حتى بلغ عدد سكانها من اليهود عام 1948 حوالى 65 ألف مهاجر.

واشترى كثير من أغنياء يهود آخرين أراضي مزارعين لبناء الكيبوتز (Kibbutz) أو المستوطنة الزراعية، أو المستعمرة الزراعية. وقد أنشئت أول مستعمرة من هذا النوع عام 1910 واسمها دغانيا (Dagania). واستمر التوسع في بناء المستوطنات، لكن بأعداد قليلة.

ونحن نتذكر أن حبوب البرتقال تشكل بجانب غصن الزيتون رموزاً فلسطينية محببة، وكان الفلسطينيون الذين يزرعون برتقال الفلنسيا (بلنصي) يجدون صعوبة في تصديره لأنه إذا حُمِّل على السفن لأوروبا سيكون أكثر عرضة للتلف.

ولذلك، طوروا نوعاً جديداً من البرتقال المخلوط بين الفلنسيا والشّموطي ليحافظوا على حلاوة الطعم ويصونوا البرتقال من التلف بجعل قشرته سميكة وقادرة على حماية البرتقال من الفساد والتهتك. لكن نقابات العمال الإسرائيلية (الهستدروت)، التي ساهمت في تشجيع اليهود على زراعة البرتقال، تآمرت مع بعض المستوردين الأوروبيين من أجل تعطيل تصدير البرتقال من يافا (بيت دجن وصرفند والأغوار وغزة)، ولذلك هبط سعر البرتقال في فلسطين حتى صار يباع الكيس ذو الخط الأحمر (سعة مائة كيلوغرام) بقروش معدودة. المزارعون تكبدوا خسارات هائلة، بينما كان المستهلكون يقولون "والله بلاد خير، شوف قديش رخيص البرتقال من كثرته".

وكذلك، تآمر المندوب السامي البريطاني على الشركات الفلسطينية الكبرى حتى لا تصبح كبيرة وفعالة ومنافسة للشركات اليهودية. وهو تآمر يعود إلى ما قبل فترة الانتداب حتى. يُذكر في هذا الإطار رجل الأعمال المتميز والرائد حسين عبد الهادي، الذي عاش في القرن التاسع عشر، وقدم للاقتصاد الفلسطيني مفاهيم الزراعة الحديثة، والقاطرات البخارية، وتفاهم لفترة مع إبراهيم باشا المصري ضد العثمانيين. ثم انقلب إلى التحالف مع العثمانيين فراح ضحية مواقفه مقتولاً. وقد قال عنه أحد الدبلوماسيين الإنكليز من اليهود لما رأى قصره وإقطاعيته عام 1855: "لا بد من تدمير هذه المنشأة وهذا القصر". وسبق هذا الكلام نشوءَ الحركة الصهيونية، وأتى أبكر بأكثر من نصف قرن من وعد بلفور.

تآمر المندوب السامي البريطاني على الشركات الفلسطينية الكبرى حتى لا تصبح كبيرة وفعالة ومنافسة للشركات اليهودية

المؤامرة على فلسطين قديمة ومستمرة، وقد بذلت الحركة الصهيونية كل جهد ممكن لكي تدمر اقتصاد فلسطين وأرض فلسطين، التي ينطبق عليها بيت شعر لأحمد شوقي على لسان مجنون ليلى "قد يهون العمر إلا ساعة… وتهون الأرض إلا موضعاً"، لا توجد قطعة أرض أثمن منها على وجه البسيطة، ليست إلا جزءاً من كلفة إسرائيل على العرب، لكن ما هي الكلفة التي تحملها العرب جميعاً مقابل إنشاء إسرائيل؟

الكلفة الأولى تتمثل في خسارة الثروة المتراكمة ومصادر الدخل في المدن الفلسطينية، والتي احتلتها إسرائيل. أما الخسارة الثانية والمتعلقة بذلك هي مقدار الثروة التي نهبتها إسرائيل، والتي يقول نتنياهو في إحدى مقابلاته التلفزيونية: "هذه أرض لليهود واستأجرها العرب لمدة ألفي سنة". أما هو ذو الأصول البولندية والذي لا يحمل ولا جينة gene واحدة من بني إسرائيل أو أبناء يعقوب، فالأرض له، وأصحابها الحقيقيون كانوا مقيمين ومستأجرين وليسوا مالكين. ولو جمعنا هاتين الكلفتين عبر الزمن، فإن الحد الأدنى لها لن يقل بأسعار اليوم عن ثلاثة تريليونات دولار.

والأجمل من ذلك أن نتنياهو أوعز بإجراء دراسة لتقدير قيمة الممتلكات اليهودية في ايران وسبع دول عربية هي المغرب، تونس، الجزائر، مصر، العراق، اليمن، سورية، خلال الفترة 1949 - 1953 بنحو 250 مليار دولار وهو يسمي أصحابها لاجئين بحجة أن الضغوطات التي مورست على الأقليات اليهودية في البلدان العربية هي التي دفعتهم للهجرة إلى إسرائيل. لكن الحقيقة أن "مبدأ بن غوريون" الذي قام على أساس تشجيع اليهود على الهجرة لإسرائيل، وتحريض المنظمات اليهودية على بث الفتنة بين الأقليات اليهودية والجيران هي التي كانت السبب الرئيسي. لقد حاصرت المنظمات الصهيونية اليهود، وحرضتهم على الهجرة بكل الوسائل. ولو طرحنا عدد هؤلاء المغادرين بسبب التحريض الصهيوني من عدد الذين هاجروا، لتقلص عدد الذين ذهبوا إلى إسرائيل طواعية بعدد لا يزيد عن عشرة آلاف. قد تكون لهم مستحقات لن تزيد عن عشرة مليارات دولار.

أما التنوع الكبير في الخسائر فهو الذي تحملته الدول العربية كافة نتيجة الحروب التي شَنتّها إسرائيل على الوطن العربي. ولو حَسبنا كلف سورية ولبنان ومصر والأردن، لبلغت مقادير ضخمة. ولو عدنا أيضاً للدول النفطية، وحسبنا خسائر تعطل الناقلين "التابلاين" وخط النفط العراقي IPC، اللذين كانا يستخدمان لتصدير النفط من ميناء حيفا وتعطلا عن العمل، ونقلا إلى الأراضي اللبنانية ثم أغلقا بعد ذلك بسبب الخسائر المتراكمة، وحسبنا كم ساهم وجود إسرائيل في كبت سعر النفط، والذي قفز مرة واحدة لما استخدمته السعودية سلاحاً عام 1973، فتضاعف سعره في عدة أيام إلى أربعة أمثال سعره الأصلي قبيل الحرب.

ثمن إسرائيل على الوطن العربي من تفجير الخلافات بين الدول العربية، وكلف الانقلابات السياسية، وضياع وحدة العرب، وحروبهم بعضهم على بعض والتي كانت إسرائيل واحدة من أسبابها، هذا الثمن يراوح بين 15 و20 تريليون دولار

وقس على ذلك ما جرى من تقطع الأوصال بين الوطن العربي، بخاصة المشرق العربي، مثل تعطل سكك الحديد والطرق المباشرة. وعندي دليل صغير. فقد كانت المسافة بين مدينة الخليل ومدينة الكرك قبل نشوء إسرائيل لا تزيد عن 45 كيلومتراً، والمسافة بين الخليل والطفيلة أكثر من 50 كيلومتراً بقليل. لكن بعد الاحتلال أصبحت المسافة بين الخليل والكرك نحو 250 كيلومتراً وبين الخليل والطفيلة نحو 340 كيلومتراً، ولو حسبنا منذ عام 1948 حجم الفرق في كلفة نقل الشحن والركاب لشكلت مبالغ مفاجئة.

ثمن إسرائيل على الوطن العربي من تفجير الخلافات بين الدول العربية، وكلف الانقلابات السياسية، وضياع وحدة العرب، وحروبهم بعضهم على بعض والتي كانت إسرائيل واحدة من أسبابها، هذا الثمن يراوح بين 15 و20 تريليون دولار، إذا أخذنا بالكلف المباشرة فقط.

فعلاً، أي ثمن كبدتنا إسرائيل ووجودها؟ ويجب أن تجرى دراسة ندرك منها أن معاناة كثير من الدول العربية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً نجمت عن وجودها.