- نتنياهو يستخدم الدعم الأمريكي والبروباغاندا لتبرير أفعاله، مما يساهم في تدهور سمعة إسرائيل ويدفع العالم لإعادة النظر في مواقفه تجاه الصهيونية.
- الانقسامات داخل المجتمع اليهودي والدولي حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تبرز، مع تزايد الدعوات لحل تفاوضي واحترام حقوق الفلسطينيين، مما يعكس تغير الرأي العام وأهمية الضغط الشعبي.
لا يمكن أن يكون الشعب الأميركي جاهلاً بالأمور إلى درجة أن إحدى محطات التلفزة الأميركية تستضيف اثنين من أتباع الديانة اليهودية المتصهينين، فيقولون إن إسرائيل بقيادة نتنياهو يجب أن تكمل حملتها العسكرية ضد غزة حتى تنهي المقاومة، وإن لم يفعلوا ذلك فستتكرر واقعة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. ويدعي هؤلاء أن المقاومة تختبئ خلف الأطفال والأسر، ولهذا يصبح هؤلاء أهدافاً غير مقصودة للقذائف والمتفجرات الإسرائيلية.
وطبعا يكرر هؤلاء ادعاءات نتنياهو الذي يقول إن جيشه يطبق أعلى درجات الحرص لتجنيب النساء والأطفال من أبناء غزة خطر الإصابة. قلنا لما سمعنا هذا الكلام العبقري، وما الجديد؟
أليست هذه كلها الحجج التي ساقها هتلر ضدهم، أو ليست هذه مبررات ضرب ناغازاكي وهيروشيما بالقنابل النووية؟ أو ليست هي مبررات الفرنسيين في حربهم ضد المناضلين الجزائريين في حرب التحرير، أو ليس هذا ما كان يقوله العنصريون حكام جنوب أفريقيا في زمن الحرب عندما كان المناضلون الأفارقة يحاربون ضد مستعبديهم من البيض؟ ألم يكن هذا جزءاً مما قاله الجنرال كستر الأميركي لما ارتكب المذابح ضد أطفال ونساء الهنود الحمر، إلى أن لاقى حتفه بعدما هزم في معركة ليتل بيغ هورن Little Big Horn؟
لم تكن نهاية كل من هؤلاء المجرمين إلا ما يتوقع منها أن تكون، وترى المجرمين يُعْرفون من سيماهم، فعينا نتنياهو زائغتان، ويبلع ريقه كلما قدم لنا واحدة من أكاذيبه، وهو يستنجد بالرئيس جو بايدن كي لا تستدعيه محكمة العدل الدولية للوقوف أمام القضاء الدولي مثل أسلافه من المجرمين، ولغة جسده وحركاته تكذب كل ما يدعيه من شجاعة ورباطة جأش. والحقيقة الأساسية أنه هو المختبئ خلف النساء والحماية الأميركية.
ولكنني لو فكرت للأمام، لقلت إن نتنياهو هو من أكثر الأسباب التي أدت إلى إعادة النظر من كثيرين في العالم ممن أغوتهم الدعاية والبروباغاندا الصهيونية في إسرائيل وأهدافها وعدوانيتها وعدم احترامها للعالم.
يعيش دون كيخوتي بنسخته السيئة واللاأخلاقية في شخص نتنياهو وزمرته. فالشخص الذي رسمه ميغيل دي سيرفانتس الإسباني في كتابه الموسوم في جزئه الأول الصادر عام 1605 "العبقري النبيل دون كيخوتي دي لا مانشا"، أما الجزء الثاني الصادر عام 1615 فقد جاء موسوماً " العبقري الفارس دون كيخوتي دي لا مانشا". فالمجنون في شخصية دون كيخوتي يتمتع بأخلاق وفروسية مضى عصرها وتلاشت. أما نتنياهو فهو لا خلق له ولا ضمير".
لقد خسرت إسرائيل من حربها السافرة على قطاع غزة الكثير من سمعتها. ولقد أنفقت أبواق دعايتها عشرات المليارات شراءً لضمائر كتاب يحرفون التاريخ، وقَصَصيين يبتدعون أشياء يجعلونها تبدو كأنها حقائق، وآخرين يكتبون سيناريوهات أفلام مفبركة لا أساس لها من الصحة من أجل أن تظهر ظلمها لأهل فلسطين على أن الغاصبين المحتلين لأرض فلسطين هم المظلومون، وأن الذين اغتصبت أرضهم هم الظلمة الإرهابيون.
وحتى لو لم يذكر اسم نتنياهو تحديداً من بين الأسماء التي ستصدرها قريباً (أو ربما أصدرتها عند صدور هذا المقال) محكمة الجرائم الدولية، فإن أسماء بارزة من بطانته سوف تستدعى، ومن سيصدق حينها أن نتنياهو بريء، بل هو ناج بسبب الضغوط السياسية التي تمارسها الولايات المتحدة. وسوف تكون النتيجة التي لا مهرب منها أن الرجل ضحى بالمقربين إليه كي ينجو بنفسه. وماذا ستكون نتيجة انتهاء الحرب على غزة سوى دعوته من المحكمة الإسرائيلية ليجيب عن الاتهامات الموجهة ضده بالكذب وسوء الائتمان على أقل تقدير.
أما الأمر الأخير فهو أن الضحايا والشهداء الذين ارتقوا بفعل آلة الحرب المستهدفة لهم سوف تكون جزءاً من ضمير الشعب الفلسطيني الذي لن ينساها أبداً، وسيعمل حتى يأتي ذلك اليوم الذي ينصفون فيه هؤلاء الضحايا من جلاديهم.
وقد شاهدت صباح الأحد الماضي فيلماً تسجيلياً عن حرب الجزائر ضد الفرنسيين، وراقبت أفعال الفرنسيين كما أوردها ضباطهم وسياسيوهم الذين تصدوا للثورة الجزائرية إبان عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فوجدت أن كلا الطرفين يسلك نفس الأسلوب، ويقول نفس الكلام الدعائي المفبرك بدءاً من الجنرال ديغول وانتهاء بالذين رفضوا ذلك وسعوا لإسقاطه.
سعى الفرنسيون لقتل قادة الثورة وأَلَّبوا جزءاً من أهل الجزائر ليعمل معهم، وزرعوا جواسيس داخل حركة الثورة، وأَلبوا أفراد الشعب المغلوب على أمرهم على قادة الثورة بأنهم لا يأبهون بدمائهم، وأجبروا طائرة تقل أحمد بن بلّة ورفاقه الأربعة على الهبوط واعتقلوهم، ثم عادوا ليفاوضوهم. ولعل أذكى حيلة استعملها الفرنسيون هي السعي لخلق فرنسا الكبرى التي تضم الجزائر على أسس الإخاء والمساواة والحرية. ونكلوا وقتلوا واستخدموا النابالم لحرق المحاصيل والحقول والناس. ومشاهد المصابين بالنابالم وجلودهم تسيح، خاصة إذا حاول أحد مسح أجزائها عن جسد المصاب.
ألا يذكرنا هذا جملة وتفصيلاً بما تفعله القوات الإسرائيلية بالمدنيين من الأطفال والنساء. إسرائيل قوة غازية على أرض فلسطينية، وهم ليسوا أدهى ولا أذكى من الفرنسيين، وفي النهاية لا بد أن يصل عقلاؤهم إلى حل تفاوضي مع الجانب الفلسطيني.
وأما الجزء الأهم، فهو أن المعركة أفرزت عدداً من الانقسامات العميقة. فاليهود الذين يريدون أمن إسرائيل بالانخراط في المنطقة لا يؤمنون بأن العنف المفرط سوف يوصل إلى ذلك الهدف، بل على العكس تماماً. فالفلسطينيون ومعهم قطاعات واسعة من الشعب العربي المناصر لهم لن يكلوا حتى يحقق الفلسطينيون هدفهم في دولتهم المستقلة القابلة للحياة والمتمتعة بكرامتها. هذا الانشقاق في صفوف اليهود في العالم خلق الرغبة عند كثير من اليهود في النأي بأنفسهم عن الحركة الصهيونية أو شبهة الصهيونة.
وفي مقابلة مع إحدى الفتيات اليهوديات في الولايات المتحدة قالت إن 40% فقط من اليهود هم صهاينة، بينما تبلغ هذه النسبة حوالى 80% من المسيحيين الايفانجليين Evangelican Christians في الولايات المتحدة. وفي نفس الوقت كذلك، تعززت الفكرة المهمة التي ترفض فكرة انتقاد إسرائيل أو الصهيونية أنها مساوية لـ"اللاسامية".
هذا المنطق المتهالك لم يعد ينطلي على كثير من الشباب في الولايات المتحدة الذين ملوا وضجروا من مسؤوليهم الذين يرتشون من الأموال الصهيونية للوصول إلى مراكزهم، والذين يتنطعون للدفاع عنها.
لعلنا نتذكر في هذا الصدد ما قاله كل من البروفيسور جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، والبروفيسور ستيفن والت عام 2009 في كتابهما الموسوم "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الأميركية الخارجية".
لقد أكدا أن ما يقوم به اللوبي لصالح إسرائيل والمسمى AIPAC من مساواة النقد لإسرائيل باللاسامية، ومن دفاع عن كل قرارات إسرائيل بالرغم من الضرر الذي تحدثه للمصالح الأميركية يجب أن يتوقف، وعلى المسؤولين ألا يبالغوا في حماية إسرائيل وأن توضع لهذا الأمر حدود. ويذكرني هذا بالبيت الوارد في قصيدة ابن عُمير البغدادي الذي خاطب زوجته في بغداد من مقر إقامته بالأندلس: جاوزتِ في نُصحِهِ حداً أضر به من حيث قدّرت أن النصح ينفعه.
وقد صدر هذا الكتاب من قبل الأستاذين عام 2009 وقد حضرت لهما محاضرة عام 2010 في عمان، عندما جاءا ليروجا للكتاب الذي تصدر قائمة مبيعات الكتب من كثرة ما وُجه إليه من نقد من قبل أنصار الصهيونية في الولايات المتحدة. ومن الواضح أن الكتاب كان صحيحاً في توقعاته التي سبقت آخر خمس حروب إسرائيلية على غزة وأهلها.
ولا يمكن أن يكون هذا البحث في منافع نتنياهو غير المقصودة خدمة للقضية الفلسطينية دون الحديث عن ثورة الطلبة الأميركان والإنكليز والفرنسيين، وكذلك في المكسيك وكندا وأستراليا واليابان، والذين ما ثاروا ضد أي قضية يخالفون فيها موقف حكوماتهم إلا ونجحوا في تغييرها بدءاً من الحرب ضد فيتنام، إلى الحرب ضد العنصرية Apartheid في جنوب أفريقيا، إلى إنهاء الحرب في البوسنة وغيرها.
ويجب أن نتذكر أن الطلاب يطالبون بمقاطعة إسرائيل ووقف مدها بالمساعدات، وعدم التعامل مع نتنياهو وبطانته واحترام إرادة المتظاهرين من مسيحيين ومسلمين ويهود ضد مواقف الإدارة الأميركية السيئة والمتقلبة.
دائرة البغي تدور على نتنياهو بعدما عاث في الأرض فساداً، وعطل العملية السلمية وساهم في قتل عشرات الألوف من الشعب الفلسطيني وجرح وجَوَّع الملايين منهم.