عاد الدولار إلى الارتفاع مجدداً مقابل العملة اللبنانية مع بدء تعاملات السوق السوداء اليوم الجمعة، بعد انخفاض قوي شهده أمس الخميس، بعد كسر الجمود السياسي على خط تشكيل حكومة جديدة، ليتجاوز سعر صرفه 11 ألفاً و500 ليرة.
وبدأ تداول الدولار صباحاً بمتوسط بلغ 11 ألفاً و500 ليرة، وبهامش أقصاه 11 ألفاً و600 ليرة للمبيع، و11 ألفاً و400 ليرة للشراء، على منصات التطبيقات الإلكترونية غير المعترف بها رسمياً بينما هي المحرّك الأساسي للسعر المتداول، مع شح واضح يحول دون إمكان شراء العملة الخضراء بسهولة في السوق السوداء.
وكان الدولار قد انخفض أمس بنحو 2000 ليرة بين بعد الظهر والمساء، بعد اجتماع رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري بحثا خلاله التشكيلة الحكومة الجديدة، على أن يجتمعا مجدداً يوم الإثنين المقبل لبلورة اتفاق محتمل بينهما، وكذلك حديث حاكم "مصرف لبنان" المركزي رياض سلامة عن تدابير قريبة قد تلجم ارتفاع الدولار.
إلا أن المواطنين لا يلمسون انعكاس هبوط سعر الصرف تراجعاً في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية اليومية، ويعيشون حالة من القلق مع تسارع الانهيار الاقتصادي والمالي وتقوّض قدرتهم الشرائية مع تزايد الفقر واستشراء البطالة والغلاء.
وكالة "أسوشيتد برس" سجلت أن متاجر تغلق، وشركات تفلس، وصيدليات نفدت الأدوية من رفوفها، ثم في لبنان هذه الأيام تندلع اشتباكات بالأيدي في المحلات التجارية حيث يتدافع المتسوقون للحصول على الحليب المجفف المدعوم والأرز وزيت الطهي.
ومثل كل اللبنانيين تقريباً، انقلبت حياة نسرين طه رأساً على عقب خلال العام الماضي تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الطاحنة في البلاد، فالقلق من المستقبل يعصف بها، إذ قبل 5 أشهر تم تسريحها من وظيفتها في شركة العقارات حيث عملت لسنوات. ولم تتمكن ابنتها البالغة من العمر 21 عاماً من العثور على عمل، مما يضطر الأسرة للاعتماد فقط على راتب الزوج الشهري، الذي فقد 90% من قيمته بسبب انهيار العملة الوطنية.
ولم تتمكن الأسرة من دفع الإيجار لمدة 7 أشهر، وتخشى طه ألا يدوم صبر المالك إلى الأبد. مع ارتفاع أسعار اللحوم والدجاج إلى ما هو أبعد من إمكاناتهم، قاموا بتغيير نظامهم الغذائي. وقالت: "كل شيء باهظ الثمن".
عائلة طه هي من بين مئات الآلاف من اللبنانيين ذوي الدخل المنخفض والطبقة الوسطى الذين سقطوا في فقر مفاجئ بسبب الأزمة التي بدأت في أواخر عام 2019، في ذروة عقود من فساد طبقة سياسية جشعة نهبت كل قطاع من قطاعات الاقتصاد تقريباً.
وبعدما فقدت الليرة أكثر من 25% من قيمتها خلال الأسابيع الماضية وحدها، وارتفع معدّل التضخم وأسعار السلع الأساسية في بلد يستورد أكثر من 80% من سلعه الأساسية، تراجعت القوة الشرائية للرواتب بشكل كبير وتبخرت المدخرات، ويضاف إلى كل ذلك تفشي جائحة فيروس كورونا، والانفجار الهائل في أغسطس/ آب الماضي في ميناء بيروت الذي دمر أجزاء من العاصمة.
وفيما يعيش أكثر من نصف السكان الآن في فقر، وفقاً للبنك الدولي، بينما تنذر أزمة سياسية مستعصية بمزيد من الانهيار، نقلت "أسوشيتد برس" عن علياء مبيض، العضو المنتدب في "جيفريز"، وهي شركة خدمات مالية متنوعة، قولها إن "الانكماش الحاد في النمو، إلى جانب التضخم المفرط وانخفاض قيمة العملة" دفع المزيد من الناس إلى وظائف غير مستقرة، ورفع مستويات البطالة، ودفع بأكثر من 50% من السكان إلى ما دون خط الفقر، مقارنة بحوالي الثلث بتقديرات عام 2018.
ولا يزال لبنان بلا حكومة منذ استقالة آخر حكومة في أغسطس/ آب، مع عدم رغبة كبار السياسيين في التوصل إلى تفاهم بشأن تشكيل حكومة جديدة يمكن أن تشق طريقاً نحو الإصلاحات والتعافي، فيما العنف في الشوارع والتوترات الطائفية في تصاعد.
وقالت طه وهي تزور ابن عمها صاحب محل للعطور في شارع الحمرا التجاري في بيروت: "الناس يموتون، ولا أحد يهتم!"، وكلاهما ارتدى كمامة لمنع انتشار فيروس كورونا خلال الزيارة.
أما شارع الحمرا، الذي كان منطقة تسوق شهيرة، ومعروفاً بمتاجره ومقاهيه ومسارحه الصاخبة، فقد تغيّر وسط هذا الوباء. ففي زيارة للشارع مؤخراً، كان كثير من المتاجر مغلقاً، بعضها بسبب إجراءات الإغلاق، وبعض آخر مغلق بشكل دائم بسبب الأزمة الاقتصادية. ويشتكي التجار في المحلات التي ما زالت مفتوحة من أنهم لا يبيعون شيئاً تقريباً.
ويستعطف المتسولون المارة للحصول على المال. تجلس امرأة وطفلها على الرصيف بجوار رسم على الحائط كتب عليه: "كلنا متسوّلون". وقال إبراهيم سمو، 59 عاماً، الذي يدير متجراً للملابس: "لا يمكن أن تزداد الأمور سوءاً". انخفضت المبيعات 90% مقارنة بالسنوات السابقة. لم يستطع بيع مخزونه الشتوي خلال فترة الإغلاق ضد الفيروس التي استمرت شهرين تقريباً في وقت سابق من العام، والآن أدى انهيار العملة إلى تفاقم الأمور.
وقال إبراهيم فرشوخ، 28 سنة، إنه بالكاد يدفع إيجار متجره حيث يبيع الأساور والحقائب الجلدية المصنوعة يدوياً. أحياناً تظل زوجته في المتجر بينما يخرج هو إلى الشوارع، محاولاً بيع الأساور للمارّة. وأضاف أن "الوضع لا يطاق".
ويحصل الغالبية العظمى من السكان على رواتبهم بالليرة اللبنانية، مما يعني أن دخولهم تنخفض أكثر بينما ترتفع الأسعار، وتتبخر المعاشات التقاعدية. كذلك أدّت الأزمة إلى استنزاف الاحتياطيات الأجنبية، ما أدى إلى تحذيرات شديدة من أن البنك المركزي لم يعد بإمكانه تمويل دعم بعض السلع الأساسية، بما في ذلك الوقود.
وتُظهر مقاطع مصوّرة على وسائل التواصل الاجتماعي اشتباكات بالأيدي في المحلات حيث يحاول المتسوقون الوصول إلى المنتجات المدعومة مثل زيت الطهي أو الحليب المجفف. وفي أحد مقاطع الفيديو، قام مسلحون من إحدى وكالات المخابرات اللبنانية بفحص بطاقات الهوية داخل محل قبل تسليم المتسوقين كيس أرز مدعوماً.
والأشخاص الذين عاشوا في يوم من الأيام بشكل مريح غير قادرين الآن على دفع الرسوم المدرسية، وأقساط التأمين، أو حتى تناول الطعام بشكل جيد.
في السياق، تقول طه، التي يعمل زوجها موظفاً في صيانة المطار: "لا أتذكر آخر مرة تناولنا فيها اللحوم. لا أستطيع تحمل تكلفتها". وتابعت إن نظام الأسرة الغذائي الآن يتكون بشكل أساسي من العدس والأرز والبرغل.
وقد أجبر انهيار العملة بعض محلات البقالة والصيدليات وغيرها من الشركات على الإغلاق مؤقتاً، إذ حذّر المسؤولون من تزايد انعدام الأمن الغذائي.
وقال رئيس نقابة أصحاب السوبرماركت نبيل فهد، في تصريح تلفزيوني، إن "الناس يخزنون البضائع، والتي لم يعد بإمكان المتاجر إعادة توفيرها - بمجرد بيع شيء ما، ويتعين على أصحاب المتاجر دفع المزيد من الأموال بالليرة اللبنانية مقابل الإمدادات الجديدة". وتابع "نحن في أزمة خطيرة جداً جداً".
وتم رفع سعر الخبز، العنصر الرئيسي في البلاد، مرتين خلال العام الماضي، وبعد ذلك، في وقت سابق من هذا الشهر، خفّض الخبازون وزن عبوة الخبز، من دون تغيير السعر.
وتُلقي طه باللوم على الطبقة السياسية الفاسدة في لبنان في دفع الدولة الصغيرة إلى حافة الإفلاس.
واستقال عاصم شعيب من وظيفته في إحدى الصحف الرائدة في بيروت عام 2000 وانتقل مع عائلته إلى فرنسا حيث افتتح مطعماً لبنانياً بالقرب من باريس. وقال الرجل البالغ من العمر 59 عاماً، وهو يسير في شارع الحمرا في زيارة مؤخراً، إنه اتخذ القرار الصحيح. وقال: "كان واضحاً أن البلاد تتجه نحو الانهيار".