مؤشرا تركيا الأخطر

30 أكتوبر 2024
نصح البنك الدولي تركيا بعدم رفع الحد الأدنى للأجور، إسطنبول 28 فبراير 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت تركيا تدهورًا اقتصاديًا ملحوظًا مع انخفاض قيمة الليرة التركية، مما أثر على القوة الشرائية وزاد من معدلات الفقر والبطالة.
- عادت تركيا للاستدانة من البنك الدولي بعد التخلص من ديون صندوق النقد الدولي، مما يشير إلى احتمالية عودة التدخلات الاقتصادية المشروطة.
- تواجه تركيا تحديات اقتصادية مستقبلية تتطلب قرارات حاسمة، مثل رفع الأجور والسيطرة على التضخم، مع الحفاظ على استقلالية السياسات الاقتصادية.

خسرت تركيا ربما أهم نقطتين بقوتها الاقتصادية، بعد أن تراجع مستوى المعيشة، جراء التضخم وعودة التدخل الخارجي، وإن على شكل نصائح، لتعود المخاوف إلى ما قبل عام 2014، وقت كانت حصون الاقتصاد مخترقة عبر قروض صندوق النقد الدولي، وحين بدأ عز الليرة يتراجع وتبدأ سلسلة التهاوي، ليهبط سعر الصرف من نحو 3 ليرات مقابل الدولار حينها، إلى أكثر من 34 ليرة اليوم.

ونرى الكفاية والقوة الشرائية من نقاط قوة الاقتصاد، لأن الأمر لا يتعلق برفاهية المستهلكين فقط، على أهمية وأحقية ذلك، بل الكفاية والملاءة تكاد تكون المحرك الأساس للأسواق والنمو والإنتاج، بل وربما درءاً لأمراض اقتصادية واجتماعية توّلدها البطالة ويجلبها الفقر وتفجرها الحاجة.

وتركيا التي كانت تتفاخر برفاهية الشعب، حتى بداية التراجع المتزامن مع الانقلاب الفاشل عام 2016 وبدء تهاوي سعر الليرة بقفزات كبيرة، بدأت تخسر هذه الميزة وتتزايد عليها تبعاتها، فأن تستمر نسبة التضخم، رغم كل المحاولات والتصريحات، عند 49.38% وتستمر أسعار المنتجات بالارتفاع لتأكل زيادات الأجور التي تضاعفت خلال سنوات، ليصل حدها الأدنى 17.002 ليرة، فهذا يعني فيما يعني، ارتفاع حد الجوع البالغ 19,8 ألف ليرة عن الحد الأدنى للأجور ووصول حد الفقر، 65.5 ألف ليرة، أضعاف الأجر الشهري.

وغير بعيد عن الأجور ومستوى المعيشة، تأتي النقطة الثانية التي بدأت تتحول بتركيا، من نقطة قوة إلى مكمن ضعف، فبعد أن بلغت أنقرة مرتبة الدائن لصندوق النقد الدولي وتخلصت من كامل ديونها عام 2014، عادت اليوم للاستدانة من البنك الدولي وربما لاحقاً من الصندوق، لتبدأ على الأرجح أشكال التدخل المشروط والتي لاحت ملامحها اليوم على شكل نأمل ونتمنى ونخشى.

فما إن بدأ الحديث بتركيا عن رفع الحد الأدنى للأجور، مطلع العام المقبل، بنسبة مرتفعة توازي التضخم وزيادة تكاليف المعيشة على الأقل، حتى تدخل رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى تركيا، جيم والش داعياً إلى "تجنُّب تكرار الزيادة الأخيرة في الحد الأدنى للأجور التي أدَّت إلى ارتفاع التضخم" وموعزاً، بشكل نصيحة أخرى "الحديث عن خفض أسعار الفائدة ربما يكون سابقاً لأوانه". وبهذه الأماني والنصائح، تدخل ورسم لملامح الاقتصاد أيضاً، لأن عدم رفع الأجور بما يتناسب مع التضخم وارتفاع الأسعار، يعني زيادة الفقراء وتراجع الاستهلاك والإنتاج وربما أكثر، وبعدم تخفيض سعر الفائدة البالغ 50%، يعني استمرار حبس الأموال بخزائن المصارف على حساب التوظيف والاستثمار وحركة الأسواق.

ولكن، وليستوي القول، هذا طرف واحد من المعادلة الصعبة التي يمر بها الاقتصاد التركي، لأن الطرف الآخر والذي يرى منه صندوق النقد، هو خفض التضخم وتحسين سعر الصرف، وإن كان على حساب "أبوية الدولة" وطرائق الدعم، ما يعني دخول تركيا بدوامة خرجت منها منذ وصل حزب العدالة والتنمية للسلطة وألغى الأصفار الستة قبل أن يسدد كامل قروض الصندوق ويتحول لدائن له.

قصارى القول: من المتوقَّع أن تعلن أنقرة، في ديسمبر/كانون الأول المقبل، عن مقدار الزيادة في الحد الأدنى من الأجور التي ستدخل حيز التنفيذ في بداية عام 2025، بعد أن جرت زيادة الأجر بنسبة 49% في يناير من هذا العام، ما أدى، أو ساهم بالارتفاع الحاد في التضخم خلال الربع الأول وتصاعد ليصل 75% في مايو/ أيار الماضي. ومن المتوقع أن يستمر المصرف المركزي بسياسة التشدد والفائدة المرتفعة، حتى ذلك التاريخ، ليضبط السيولة النقدية بالسوق، قبل توقعات تخفيض سعر الفائدة إلى 20%، عساه يصل لحلم التضخم المنخفض بنحو 24% نهاية العام المقبل وخانة الآحاد عام 2026.

والمتابع لحركة زيادة الحد الأدنى للأجور بتركيا، يمكنه تفسير التبدل الهائل، بسعر الصرف ومستوى المعيشة، بل ويتنبأ بمستويات التضخم ومرارة العودة للاستدانة ووصفات صندوق النقدي الدولي. فعلى مدار السنوات الأخيرة، شهد الحد الأدنى للأجور في تركيا زيادات متوالية، ارتفع بشكل مستمر من 380.5 ليرة تركية في عام 2006 إلى 17,002 ليرة في عام 2024. ففي عام 2007، كان الحد الأدنى للأجور 411.1 ليرة، وارتفع إلى 429.4 ليرة في 2008. وفي عام 2009، شهدت البلاد زيادة كبيرة بلغ الحد الأدنى وقتها 536.8 ليرة. هذه الزيادة كانت بداية لمعدل تصاعدي، إذ ارتفع الحد الأدنى إلى 587.8 ليرة في 2010 و644.5 ليرة في 2011.

وبالتوازي مع بدء تراجع سعر الصرف، وقت لم يزد الدولار عن 1.75 ليرة وقتها، واصل الحد الأدنى للأجور الزيادة في السنوات التالية، ليصل إلى 720.5 ليرة في 2012 و788.3 ليرة في 2013. وفي عام 2014، جرى تحديده عند 868.5 ليرة، مما يعني تحسناً ملحوظاً في دخل العاملين. لكن التحول الأبرز، بسعر الصرف، خلال عام الانقلاب الفاشل، إذ بلغ الحد الأدنى للأجور عام 2016، نحو 1300.1 ليرة، ليحقق بعدها قفزات أكبر، حيث ارتفع إلى 1,404.1 ليرة في 2017 و1,603.1 ليرة في 2018. وفي عام 2019، سجل الحد الأدنى للأجور 2020.9 ليرة، وهو ما يعكس التأثير المتزايد للتضخم على مستوى المعيشة.

ولم تمر أزمة كورونا والزلزال وتداعيات الانتخابات البرلمانية والرئاسية، خلال السنوات الأخيرة على التضخم والأسعار والأجور بيسر، بل تسارعت الزيادات بشكل ملحوظ. ففي عام 2020، وصل الحد الأدنى إلى 2,324.7 ليرة، وارتفع إلى 2,825.9 ليرة في 2021. ومن ثم، شهد ارتفاعاً كبيراً إلى 4,876.9 ليرة في 2022، ليصل في عام 2023 إلى 9,954.6 ليرة، قبل رفع النسبة الأكبر مطلع العام الجاري، ويصل الحد الأدنى 17.003 ليرة تركية.

الركن الخارجي الموازي تجلى بمد يد تركيا للمؤسسات الدولية المالية، فقبل أن يعلن وزير المال والخزانة التركي، الأسبوع الماضي عن قرض من البنك الدولي بقيمة 1.9 مليار دولار، استدانت تركيا مليار دولار منتصف العام الماضي وقبله 512 مليون دولار في سبتمبر/ أيلول عام 2022. ليبدأ على ما يبدو، مشوار الدين الخارجي، خاصة أن وزير المال محمد شيمشك ألمح إلى أن لبلاده مخصصات قروض من البنك الدولي تصل إلى 18 مليار دولار، ولتبدأ على الأرجح، الوصفات والشروط، وإن على شكل نرجو ونأمل بالبداية، إلى جانب فترة السداد والفائدة وخدمة الدين، قبل أن تتحول، فيما لو غرقت تركيا بمستنقع الديون، إلى التدخل لحجم عمالة القطاع الحكومي وأسعار الطاقة ونسبة الضرائب وسياسة الدعم.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

نهاية القول: يمكن الحكم، وفق الأرقام والمعايشة، أن الاقتصاد التركي اليوم، ليس بخير، وهذا لا يعني حكماً، أنه بأزمة كما يعني أنه ليس بمنأى عنها. فمستوى المعيشة وبطون المستهلكين، هو المؤشر الأدّل والأبلغ على نجاعة الخطط والبرامج الحكومية، كما بالاستقلالية عن الشروط والوصفات الدولية، مؤشر آخر على التعافي وحرية القرارات، الاقتصادية وغير الاقتصادية.

ما يعني أن تركيا على مفترق طرق، قد تخرج منه إلى دوامة الديون والقبول بوصفات المؤسسات الدولية، فتحقق رضا المؤسسات المالية ووكالات التصنيف الائتماني، والذي، الرضا، قد يأتي عليها، إلى جانب القروض، بالاستثمارات، وقد لا يأتي. وقد يوصلها المفترق إلى الانتعاش عبر حسن استخدام القروض، والاستفادة من سني إعفاء الفوائد ونسبتها المنخفضة، فتسخّر الديون الخارجية بما يعيد عليها الفائدة بأعلى من نسبة الفائدة المصرفية إلى جانب التنمية وتوظيف الأموال، طبعاً، إن بقيت بما دون القبول بالقروض المشروطة والسماح بالتدخل بسياستها الاقتصادية.

وكل ذلك مرتبط بسياسة نراها تتبدل تبعاً للمتغيرات، فالبلد الذي كان يرى بالفائدة "ربا" وحارب ارتفاعها وأقال محافظين لمجرد فكروا بالرفع، أوصل سعر الفائدة اليوم لخمسين بالمئة، والبلد الذي رأى بقروض الصندوق والبنك، أسراً وتدخلاً، عاود مد اليد لهما... لكن هذا البلد، لم يزل يرفع رفاهية الشعب كهدف أساس لبرنامجه الاقتصادي، ليبقى بالحد الأدنى للأجور مطلع العام، الاختبار الأولي للانزياح، إن لضفة تنفيذ توصيات الخارج أو مطالب معيشة الشعب بالداخل.

المساهمون