تجعل بيئة الاستثمار والأعمال ذات الفوائد المرتفعة الممزوجة بالمخاطر الأساسية والجيوسياسية شركاء السوق أكثر تركيزاً على إدارة المخاطر في مختلف القطاعات. فما تأثير رفع الفوائد بالنسبة لحاملي الأصول على اختلافها؟
"شيء واحد فقط يجب أن ننظر إليه: أسعار الفائدة". بهذه العبارة يصف رئيس قسم الأبحاث في شركة الاستثمار "أي كيو3" iQ3 مارك كونورز لـ"وول ستريت جورنال" هوس الأسواق المالية بالحملة التاريخية لرفع أسعار الفائدة التي أطلقها مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) لمحاربة التضخم الجامح. فبين مارس/آذار 2022 ويوليو/تموز 2023، رفع البنك أسعار الفائدة من الصفر تقريباً إلى أكثر من 5%.
ويضيف كونورز: "هذا ارتفاع كبير جداً يضغط على سوق الأسهم بشكل عام، والأصول الحساسة لسعر الفائدة على وجه الخصوص".
وبعد الارتفاعات الأولية، دخلت الأسهم الأميركية في سوق هابطة، مع انخفاض مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" 20% تقريباً عام 2022.
لكن مع وجود علامات مشجعة على أن التضخم ينحسر، يتوقع العديد من المستثمرين أن يتمكن صناع السياسة من وقف رفع أسعار الفائدة أو حتى تقليصها العام المقبل.
مثلاً، أظهرت أداة "فيدوتش" FedWatch التابعة لمجموعة "سي أم إي" CME احتمالاً بنسبة 99% في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بأن سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية سيبقى دون تغيير بين 5.25% و5.5% قبل اجتماع لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية في نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
وقد ألمح رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي، جيروم باول، إلى أن الاقتصاد الأميركي بدأ يظهر علامات على انخفاض الأسعار، رغم أنه لا يزال يراقب البيانات القادمة لتحديد ما إذا كان سيتم إنهاء حملة التشديد الكمي الأكثر جرأة منذ الثمانينيات أو متى سيحدث ذلك.
وأظهر مقياس التضخم في مؤشر أسعار المستهلك زيادة للمرة الأولى منذ 6 أشهر في أغسطس/آب.
العملات الأجنبية والمعادن
حول القطاعات المرتبطة بهذه القطاعات، يقول الرئيس التنفيذي لشركة "تاتل أسيت مانجمنت" Tuttle Asset Management مات توتل، إنه سيراقب أداء الدولار الأميركي الذي ارتفع بنسبة 3.8% مقابل سلة من العملات الرئيسية هذا العام.
ويوضح قائلاً: "إذا انخفضت أسعار الفائدة، لن يكون ذلك جيداً للدولار، لذلك سأنظر إلى المعادن الثمينة" التي تتحرك عادة في الاتجاه المعاكس. في الواقع، إن انخفاض الدولار يجعل شراء المعادن الصناعية مثل الألومنيوم أو النحاس أو الفضة أكثر جدوى بكثير، فهذه الأسواق مقومة بالدولار".
مثلاً، انخفضت أسعار العقود الآجلة للنحاس لمجموعة "سي أم إي" بأكثر من 16% عن أعلى مستوياتها في يناير/كانون الثاني، اعتباراً من 19 أكتوبر/تشرين الأول، بعد زيادات أسعار الفائدة في فبراير/شباط ومارس/آذار ويوليو/تموز، والرأي السائد بأن المعدلات الأعلى ستكون موجودة لفترة من الوقت.
كما ارتفعت أسعار الذهب في الأشهر القليلة الأولى من عام 2023، واستقرت منذ ذلك الحين. وعادة ما يكون لأسعار المعدن الأصفر علاقة عكسية مع أسعار الفائدة.
في هذا الصدد، كتب المدير التنفيذي المختص بالمعادن في مجموعة "سي أم إي" ساشين باتل في مقال حديث: "مع بقاء أسعار الفائدة مرتفعة، وفي بعض الحالات استمرار الارتفاع، تعد السندات واستثمارات الدخل الثابت بديلاً جذاباً من الذهب. لكن إنهاء دورة رفع أسعار الفائدة الحالية يمكن أن يؤثر إيجاباً في سعر الذهب".
حول هذه النقطة، قال جوزيف ستيفانز من "أم كيه إس بامب" MKS PAMP في مقابلة مع "أوبن ماركتس" OpenMarkets في سبتمبر/أيلول: "نرى أنه مع انعكاس العائد على عامين و10 أعوام، والذي بدأ في الاستقرار، لا يزال المستثمرون يشعرون بالقلق بشأن الشكل الذي سيبدو عليه المستقبل. ويستمر عدم اليقين هذا في دفع الناس باتجاه الذهب".
وارتفعت التقلبات في أسواق العقود الآجلة للعملات الأجنبية في وقت مبكر من عام 2023، لكنها انخفضت في أشهر الصيف، وفقاً لمؤشر التقلبات "سي في أو إل" CVOL الصادر عن مجموعة "سي أم إي". ومع ذلك، يمكن رؤية تحركات قصيرة في اجتماعات اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة في فبراير/شباط ومارس/آذار ويوليو/تموز، حيث جرت زيادة أسعار الفائدة.
الأسهم
كما أتاحت زيادات "الاحتياط الفيدرالي" لشركاء السوق فرصاً للتداول، حيث أدى "الارتفاع لفترة أطول" إلى التحوّل مجدداً نحو الأصول الخطرة بعدما تعرضت لضربة شديدة العام الماضي.
وقال تاتل: "لقد ضاقت الفجوة بين مؤشرَي داو جونز وناسداك في الآونة الأخيرة، لكن كان لديهما تباين مرتفع تاريخياً العام الماضي".
وقد انتعش مؤشر "ناسداك"، خاصة عام 2023، حتى مع استمرار ارتفاع أسعار الفائدة. وصعد المؤشر 27% خلال الربع الثالث، في حين ارتفع مؤشر "داو جونز" بأقل من 2%.
وبينما يحاول مراقبو السوق فك شيفرة الخطوة التالية التي سيتخذها بنك الاحتياط الفيدرالي، أصبحت إدارة المخاطر في المقدمة، وازدهر تداول العقود الآجلة والخيارات.
وسجل حجم التداول اليومي في خيارات مؤشر E-mini Nasdaq-100 في مجموعة "سي أم إي" رقماً قياسياً في الربع الثالث. وبلغ إجمالي تداول خيارات مؤشر الأسهم 1.4 مليون خلال هذا الربع، وهو رقم قياسي أيضاً.
على هذا الصعيد، يقول الرئيس العالمي للمنتجات المالية والمنتجات خارج البورصة في مجموعة "سي أم إي" تيم ماكورت إن نشاط الخيارات المتزايد، خاصة في الخيارات الأسبوعية، هو علامة على أن المتداولين يرون أن بيئة الأسعار الحالية هي بيئة تتطلب اهتماماً وثيقاً بإدارة المخاطر.
ويقول ماكورت: "عندما نفكر في تأثير أسعار الفائدة، فإنها تؤثر أيضاً في أشياء مثل الأسهم من منظور أرباح الشركات ومنظور تقييم الأرباح. إن الأمر يتعلق حقاً بنظرية الخيارات التبسيطية التي يستخدمها الكثير من متداولي الخيارات، ويتطلب ذلك إدارة مخاطر أكثر نشاطاً ودقة".
على نطاق أوسع، شهدت "سي أم إي" ثاني أعلى متوسط حجم تداول يومي للربع الثالث على الإطلاق عام 2023. ويمثل الإجمالي حجم التداول عبر أسعار الفائدة، ومؤشر الأسهم، والطاقة، والزراعة، والعملات الأجنبية، وفئات أصول المعادن، من بين فئات أخرى.
الطاقة والزراعة
عن هذه المجالات، يقول كبير استراتيجيي الاستثمار في شركة الوساطة "سي أف أر إيه" CFRA سام ستوفال إن إجراءات مجلس الاحتياط الفيدرالي أثرت في فئات الأصول بشكل مختلف.
ويوضح قائلاً: "بينما انخفض مؤشر ستاندرد أند بورز 19.4% عام 2022، كان قطاع الطاقة الأفضل أداء، بما يرجع أساساً إلى انقطاع الإمدادات بسبب حرب أوكرانيا. لقد ارتفعت الأسعار كثيراً، بما في ذلك أسعار الوقود الاستهلاكي التي ارتفعت 190%".
وإذا استمرت حرب أوكرانيا وانتعش الاقتصاد الصيني، فمن الممكن أن تستمر أسعار الطاقة في الارتفاع، مدعومة بارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي، وفقاً لستوفال. وظلت أسعار النفط الخام منخفضة معظم العام، حيث ساعد ارتفاع أسعار الفائدة على كبح الطلب.
وبعد قرار مجلس الاحتياط الفيدرالي إبقاء أسعار الفائدة ثابتة في سبتمبر/ أيلول، انخفضت أسعار خام غرب تكساس الوسيط 1%، ما يعكس وجهة نظر مفادها أن الطلب قد ينخفض نتيجة لذلك.
ووسط هذه الخلفية غير المؤكدة، ارتفع حجم التداول في مجمع الطاقة التابع لمجموعة "سي أم إي" 16% فوق مستويات العام الماضي في الربع الثالث، مع زيادات كبيرة في تداول خيارات الطاقة التي زادت 42%.
ويوافق كريغ إرلام، من شركة "أواندا" لأبحاث الصرف الأجنبي، على أن الطاقة ستحقق أداء قوياً، حيث يحافظ تحالف "أوبك+" على رقابة مشددة على العرض، إذ تخطط السعودية وروسيا لخفض الإمدادات حتى ديسمبر/كانون الأول المقبل.
وأشار إرلام أيضاً إلى أن السلع الأساسية الأخرى مثل المعادن والزراعة والمواد الأولية الغذائية مثل القمح، يمكن أن تتأثر إذا ظلت الأسعار مرتفعة لفترة من الوقت.
ويتعيّن على معظم المزارعين اقتراض الأموال لشراء الأراضي أو المعدات أو غيرها من المدخلات. فبالنسبة إليهم، أصبحت القروض أكثر تكلفة بكثير مما كانت عليه عام 2022، عندما بدأ مجلس الاحتياط الفيدرالي رفع أسعار الفائدة.
في السياق، يقول المزارع بن راند من نبراسكا إن "أحد الأشياء التي يجب النظر إليها هو: كيف يمكنني اقتراض أقل مبلغ من المال؟".
ويشير محللون إلى أنه في حين أن خطر الهبوط الحاد في الولايات المتحدة والعالم لا يزال قائماً، فإن الهبوط الناعم يمكن أن يغير التوقعات بشكل حاد.
في هذا الصدد، يقول إرلام إن "الهبوط الناعم ربما يُمكّن أسعار الفائدة من التراجع في النهاية. يمكننا بعد ذلك أن نرى انتعاشاً جيداً، حيث تتجنب الاقتصادات سيناريوهات الركود الأكثر كارثية".
سوق السندات
ربما لا يمكن الشعور بتصرفات مجلس الاحتياط الفيدرالي بشكل مباشر أكثر من سوق سندات الخزانة. فقد ارتفع المعدل الأساسي المستخدم لتسعير الرهن العقاري والقروض الاستهلاكية إلى أعلى مستوياته منذ 16 عاماً في أكتوبر/تشرين الأول.
وأشار جيروم باول إلى أن ارتفاع عوائد السندات قد يعني أن مجلس الاحتياط الفيدرالي سيُبقي أسعار الفائدة ثابتة مرة أخرى في اجتماعه في نوفمبر/تشرين الثاني.
ومع وجود الكثير من المخاطر، إضافة إلى بيئة ذات أسعار فائدة أعلى، وضع المشاركون في سوق سندات الخزانة إدارة المخاطر في أعلى مستوياتها.
فقد وصلت عقود الخزانة الآجلة -عدد العقود الآجلة غير المستقرة- إلى رقم قياسي تخطى 19.8 مليون عقد في 23 أغسطس/آب الماضي.
كما بلغ متوسط حجم التداول اليومي لعقود سندات الخزانة الأميركية الآجلة رقماً قياسياً تجاوز 308 آلاف عقد يجري تداولها يومياً في الربع الثالث.
ومع إبقاء مجلس الاحتياط الفيدرالي أسعار الفائدة ثابتة في اجتماعه في سبتمبر/أيلول، عاد بعض التفاؤل.
وقال كبير الاقتصاديين في مجموعة "سي أم إي" بلو بوتنام في مقطع فيديو حديث إن الحفاظ على أسعار الفائدة المرتفعة يمكن أن يمثل بداية حقبة جديدة لسياسة مجلس الاحتياط الفيدرالي.
ويعتبر بوتنام أن أسعار الفائدة المنخفضة للغاية في عهدَي آلان غرينسبان وبن بيرنانكي في رئاسة مجلس الاحتياط الفيدرالي "شجعت على البحث عن العائد، وشاعت وجهة النظر القائلة بأن البنك المركزي يساند السوق ويدعم بشكل مصطنع أسعار الأسهم والسندات (أي انخفاض عوائد السندات). والآن، يرشدنا البنك، بقيادة باول، إلى أن تلك الأيام أصبحت من الماضي".