في افتتاحية التقرير الشهري لجمعية مصارف لبنان، عدّد أمين عام الجمعية فادي خلف فئات موجودات المصارف المتبقية. ومن هذه الفئات، ودائع المصارف اللبنانية في المصارف المراسلة، التي يقارب رصيدها 4.16 مليارات دولار، فيما يقابلها 4.36 مليارات دولار من الالتزامات لمصلحة المصارف الأجنبية. وهذا تحديدًا يعني أن صافي موجودات المصارف لدى المصارف المراسلة، بعد احتساب الالتزامات، يسجّل رصيدًا سلبيًا تقارب قيمته 204 ملايين دولار.
وأهم موجودات المصارف الأخرى تتمثّل في ودائعها لدى المصرف المركزي، التي تبلغ حدود 86.6 مليار دولار. وكما هو معلوم، يمتنع المصرف المركزي اليوم عن سداد هذه الودائع للمصارف، بعدما اقتصرت قيمة احتياطاته بالعملات الأجنبية على سيولة لم تتجاوز قيمتها 9.74 مليارات دولار في أواخر شهر فبراير/شباط الماضي.
وهذا تحديدًا ما يشكّل فجوة الخسائر الضخمة المتراكمة، التي تمثّل المصدر الأساسي لأزمة القطاع المصرفي اللبناني.
في الوقت نفسه، تدنّت الموجودات المتمثّلة في قروض المصارف للقطاع الخاص إلى نحو 9.75 مليارات دولار، فيما انخفضت قيمة محفظة سندات اليوروبوند، أي سندات الدين المترتّب على الحكومة اللبنانيّة بالعملات الأجنبية، إلى 2.9 مليار دولار فقط.
مع الإشارة إلى أنّ الحكومة اللبنانية تمتنع، منذ مارس/آذار 2020، عن تسديد قيمة هذه السندات عند الاستحقاق، ما دفع المصارف اللبنانية، منذ ذلك الوقت، إلى بيع الغالبية الساحقة من محفظة سندات اليوروبوند التي تملكها إلى أطراف أجنبية.
باختصار، ما تؤكّده كل هذه الأرقام هو أن المصارف اللبنانية تعاني بوضوح من أزمة ملاءة وسيولة في الوقت نفسه.
فهي مدينة اليوم بنحو 94.31 مليار دولار بالعملات الأجنبية للمودعين، فيما تمثّل خسائر القطاع المصرفي بأسره أكثر من 77% من هذه القيمة، نتيجة الاستنزاف الحاصل في أموال المصارف المودعة في المصرفي المركزي.
ورغم أهمية استعراض هذه الأرقام بشكل متكرّر، للوقوف عند حجم ونوع المشكلة، من المهم التساؤل عن سبب تذكير جمعية المصارف بهذه الحقائق، في هذا الوقت بالذات.
فمن الناحية العملية، كانت تقارير صندوق النقد الدولي تحذّر، منذ سبع سنوات، من تنامي الفجوة في ميزانية المصرف المركزي، فيما حرص حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، على الضغط لشطب 14 صفحة من أحد هذه التقارير عام 2016، لتفادي إثارة قلق الأسواق المالية.
وعلى مرّ السنوات الماضية، وخصوصًا في السنوات التي تلت الانهيار المصرفي عام 2019، كانت تقارير ودراسات مراكز الأبحاث الدورية تعيد احتساب حجم فجوة الخسائر كل سنة، كما كانت تعيد دراسة حجم الموجودات المصرفية السائلة أو القابلة للتسييل.
لا بل يعرف اللبنانيون جميعًا أن ثمّة خطتين حكوميتين قامتا بدراسة حجم الخسائر بشكل مفصّل، في عامي 2020 و2022، وتوصّلتا إلى نتائج مشابهة لتلك التي نعرضها اليوم!
أما الأهم، فهو أنّ المصارف اللبنانية كانت تعاني من عجز في حساباتها لدى المصارف المراسلة (الفارق بين الودائع والالتزامات في الخارج)، طوال السنوات الماضية، وبمستويات تفوق العجز الموجود اليوم.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ العديد من المصارف اللبنانية قامت، خلال السنوات الثلاث الماضية، ببيع جزء من فروعها في الخارج، لتتمكّن من الإيفاء بالتزاماتها للمصارف الأجنبية، ما قلّص هذا العجز إلى حد كبير.
بالمختصر المفيد، لا يوجد شك في حساسيّة وخطورة كل الأرقام التي تشير إلى أزمة الملاءة والسيولة التي يعاني منها القطاع. إلا أنّ هذه الأرقام، التي استعرضتها جمعية المصارف مؤخّرًا، لا تحمل أي جديد يختلف عن ما كان الخبراء يشيرون إليه منذ سنوات، ومنهم خبراء المؤسسات الدوليّة المعروفة!
لكل هذه الأسباب، ثمة ما يستدعي البحث في أهداف جمعية المصارف من إثارة هذه البلبلة المستجدة، من خلال ربط هذه المعطيات، التي جرت إثارتها فجأة، باحتمالات الإفلاس التام والضياع الكلّي للودائع، كما أوحت بعض الأوساط التي تدور في فلك الجمعية.
أما أهم ما في الموضوع، فهو تركيز الجمعية في البيان على مسألة العجز في الحسابات لدى المصارف المراسلة، والتي توحي بأن المصارف ستواجه أزمة ائتمان في علاقتها مع النظام المالي العالمي، وهو ما سيدفع البلاد نحو العزلة المالية الكاملة.
وهذا التهويل يتجاهل حقيقة أنّ المصرف المركزي سمح للمصارف، طوال سنوات الأزمة الماضية، باستعمال جزء من الاحتياطات المتبقية لديه، لسداد مستحقاتها في الخارج، والحؤول دون حصول هذا السيناريو بالتحديد.
في جميع الحالات، يبدو من الواضح أن جمعية المصارف تستهدف من وراء كل هذا التهويل المستجد الضغط بعدّة اتجاهات.
فهي تسعى أولًا إلى تخفيف الضغوط التي تتعرّض لها من جانب القضاء اللبناني، الذي أصدر مؤخّرًا قرارًا يفرض على أحد المصارف سداد وديعة بالدولار النقدي لمصلحة أحد المودعين.
كما تسعى للضغط على المجلس النيابي، من أجل إقرار قانون يشرّع القيود التي تفرضها على السحوبات والتحويلات، وهو ما سينجح في حماية المصارف من الدعاوى القضائية.
وفي الوقت نفسه، تحاول المصارف أيضًا الضغط باتجاه معالجات أقرب لمصالحها، على مستوى القوانين المرتبطة بإعادة هيكلتها.
بصورة أوضح، تريد المصارف القول إنّها باتت في موقع هشّ للغاية، وإن الضغط عليها بدعاوى المودعين القضائيّة يمكن أن يدفعها باتجاه السقوط النهائي، بالنظر إلى الاستنزاف المالي الذي تسببه دعاوى المودعين الرابحة.
وهذا تحديدًا ما يفسّر توقيت الحملة التي قامت بها جمعية المصارف، بالتوازي مع إعلانها العودة إلى الإضراب الشامل من جديد، احتجاجًا على الملاحقات القضائية التي تتعرّض لها على خلفيّة امتناعها عن سداد الودائع.
إنما، وبمعزل عن تهويل جمعية المصارف، من المهم الإشارة إلى أنّ القانون اللبناني، وككل قوانين الدول الأخرى، يميّز المصارف ويعطيها وضعيّة خاصة، ويحدد لها طريقة معيّنة للتعامل مع سيناريوهات الإفلاسات أو التوقّف عن الدفع. بمعنى آخر، لا يمكن للمصارف أن تقفل أبوابها وتحل نفسها بنفسها، بمجرّد انهيارها، على النحو الذي أرادت الجمعيّة تصويره للمودعين.
في الحالات العاديّة، يفترض أن يمر المصرف المتعثّر بالهيئة المصرفيّة العليا، التي تنظر في خيارات عديدة من بينها التصفية أو إعادة الهيكلة أو الدمج والاستحواذ مع مصرف آخر، على أن يتم ذلك وفقًا للسيناريو الذي يحقق أفضل نتيجة للمودعين.
أمّا في حالة الانهيار المصرفي الشامل كالذي يمر به لبنان، فمن المفترض صياغة قوانين طارئة لإعادة هيكلة القطاع بأسره وتوزيع الخسائر، وفقًا لتدقيق مفصّل يحدد المسؤوليّات بشكل دقيق، وبحسب معايير واضحة تحدد المصارف القابلة للاستمرار، وهذا ما لم يتم بعدُ.
أي بعبارات أوضح، المصارف متعثّرة فعليًا منذ سنوات عديدة، بدلالة توقّفها عن الدفع للمودعين منذ أواخر عام 2019. المشكلة الأساسية، هي أنّ المصارف استمرّت في العمل على هذا الحال على مدى السنوات الثلاث الماضية، بفضل الغطاء الضمني الممنوح لها من قبل السلطتين التنفيذية والنقدية.
ولذلك، لم يتم وضع مسار قانوني واضح لإعادة هيكلتها والتعامل مع حالة التعثّر، ومعالجة الخسائر المتراكمة وإنتاج قطاع مصرفي جديد وسليم. وبنتيجة ما جرى خلال السنوات الثلاث الماضية، تراكمت المزيد من الخسائر في الميزانيّات، ما سيكبّد المودع المزيد من الاقتطاعات من قيمة وديعته في المستقبل.
ولهذا السبب، لا يفترض بالمودعين الخضوع لتهويل جمعية المصارف بسيناريوهات الإفلاس أو التعثّر.
بل يفترض المطالبة بمسار قانوني يعترف بوضعيّة المصارف الراهنة كقطاع متعثّر، ويضع آلية واضحة لتحديد الخسائر في كل مصرف، ومن ثم التعامل معها بشكل شفّاف وواضح. أمّا الاستمرار في حالة المراوحة الراهنة، فلن يُنتج إلا المزيد من الإجحاف بحق المودعين.