في نهاية فترة الستينيات من القرن الماضي تم تأسيس مجمع مصر للألومنيوم، أكبر مصنع لإنتاج الألومنيوم في منطقة الشرق الأوسط، بمدينة نجع حمادي الواقعة في صعيد مصر وغرب مدينة الأقصر السياحية الشهيرة وعلى مساحة 5 آلاف فدان.
لم يكن المشروع مجرد إقامة مصنع، بل تأسيس مجتمع متكامل، صناعي وزراعي وعقاري وخدمي وتعليمي وسياحي، إذ أقيمت مدراس ووحدات سكنية وتجارية وزراعية للعاملين في المجمع وأسرهم.
كان الهدف من إقامة المجمع هو إنتاج خام الألومنيوم لتغطية الطلب المحلي المتزايد والتصدير للخارج، والاستفادة من الطاقة الكهربائية الفائضة والرخيصة المولدة من السدّ العالي الذي تأسس قبل أكثر من نصف قرن وغيّر وجه مصر كاملاً.
وعقب بدء الإنتاج في المجمع الصناعي انطلق الألومنيوم المصري شرقاً وغرباً، غازياً الأسواق العالمية، ومدراً على خزينة الدولة المصرية مليارات الدولارات خلال سنوات، وموفراً فرص عمل لآلاف من الأيدي العاملة.
سنة بعد أخرى والمجمع يتوسع ويرفع طاقته الإنتاجية إلى 320 ألف طن سنوياً، ويتحول إلى واحد من أبرز القلاع الصناعية، ليس في مصر فقط بل في المنطقة، ويتجاوز عدد العاملين فيه 10 آلاف عامل.
برزت أهمية مجمع الألومنيوم في حرب الاستنزاف التي خاضتها مصر ضد العدو الإسرائيلي، ثم في حرب أكتوبر 1973
وبرزت أهمية مجمع الألومنيوم في حرب الاستنزاف التي خاضتها مصر ضد العدو الإسرائيلي في فترة الستينيات ورفد المجهود العسكري بالمادة الخام في ذلك الوقت، ثم في حرب أكتوبر 1973.
كما برزت أهمية مصنع الحديد والصلب بحلوان وغيره من المصانع التي وفرت للمصانع العسكرية المصرية في ذلك الوقت المواد الخام لصناعة الأسلحة والمعدات وتجهيزات الصواريخ والطيران والدفاع الجوي والمدافع والإشارة والسيارات وغيرها.
وفي سنوات حكم حسني مبارك الثلاثين، فلت مجمع الألومنيوم من اليد الآثمة التي امتدت للقطاع العام المصري، حين باعت حكومات مبارك المتعاقبة درّة الشركات الاستراتيجية التي كانت تعمل في قطاعات حيوية مثل الحديد والصلب والبنوك والإسمنت والأسمدة والبتروكيماويات والأغذية والمطاحن والغزل والنسيج وغيرها.
وعلى مدى أكثر من نصف قرن، واصل مجمع نجع حمادي إنتاجه، وشهد توسعات عدة وإضافة خطوط إنتاج وخبرات جديدة إلى أن وصلنا إلى العام 2016 الذي شهد واحداً من أخطر القرارات الاقتصادية في مصر، وهو تعويم الجنيه المصري مقابل الدولار، والذي أعقبته زيادة تكلفة الإنتاج داخل قطاع الصناعة والإنتاج، وفي القلب منه مجمع مصر للألومنيوم، خصوصاً مع قفزات أسعار المواد الخام والسلع الوسيطة المستوردة ومواجهة المستوردين ندرة في النقد الأجنبي وتدبير الدولار لفتح الاعتمادات.
كما زادت التكلفة بشكل حاد مع إجراء الحكومة زيادات قياسية في أسعار الكهرباء بما فيها للمصانع كثيفة الاستهلاك مثل الحديد والألومنيوم والسيراميك والأسمدة وغيرها، وتسبب القرار في إرباك الموقف المالي لمجمعي الألومنيوم والحديد والصلب وغيرهما.
تعويم الجنيه المصري وزيادة التكلفة والمنافسة الإقليمية ألحقت أضرارا بالغة بأهم مجمع لإنتاج الألمونيوم في الشرق الاوسط
وزاد الطين بلّة دخول منافسين إقليميين مجال صناعة الألومنيوم مثل السعودية التي بدأت الإنتاج عام 2012، بطاقة إنتاجية ضخمة تتجاوز 500 ألف طن، وبما يتجاوز إنتاج مجمع مصر للألومنيوم الذي تراجع في السنوات الأخيرة مع زيادة الأعباء المالية، وإهمال الدولة قطاع الصناعة لصالح قطاعات خدمية أخرى مثل العقارات، وتوقف الحكومة عن ضخ استثمارات في المجمع، أو تحديث خطوط الإنتاج المتهالكة وخفض تكلفة الطاقة وحماية البيئة.
والنتيجة أنّ أكبر مصنع لإنتاج الألومنيوم في المنطقة بات يعاني بشدة، كما عانت آلاف الشركات الصناعية المصرية، وتعثرت الآلاف منها خلال السنوات الأخيرة وتوقفت التروس عن الدوران فيها.
ومع تفاقم أزمة سدّ النهضة الإثيوبي واحتمال تأثيره على طاقة الكهرباء المولدة في مصر من السدّ العالي، تخوف كثيرون على مستقبل مجمع مصر للألومنيوم وإمكانية تصفيته أو بيعه للمستثمرين المحليين أو الأجانب، خصوصاً أنّه تردد أنّ المجمع يستهلك نحو ثلث الطاقة المولدة من السدّ.
زادت هذه التخوفات عقب تسليط وسائل الإعلام، بشكل لافت، الضوء على الخسائر التي يتكبدها مجمع مصر للألومنيوم من دون ذكر أسبابها بموضوعية أو مسؤولية الحكومة عنها، ومن هنا انطلقت شائعات قوية في وسائل التواصل وغيرها حول إقدام الحكومة على تصفية مجمع الألومنيوم كما حدث مع مجمع الحديد والصلب بحلوان.
صحيح أنّ المركز الإعلامي لمجلس الوزراء ووزارة قطاع الأعمال العام سارعا ونفيا هذه الشائعات، السبت، في بيان رسمي، لكن يظل التخوف على مستقبل مجمع الألومنيوم قائماً، لا سيما مع مزاعم وسائل الإعلام المتواصلة أنّ المجمع الصناعي العملاق بات عبئاً على موازنة الدولة في ظل تحقيقه خسائر تجاوزت 1.7 مليار جنيه (108 ملايين دولار) العام الماضي 2020 ونقص الإيرادات بمبلغ 2.4 مليار جنيه (153 مليون دولار) خصوصاً مع تراجع الصادرات، وتسليط الإعلام الضوء على الاعتصامات العمالية التي يشهدها المجمع من وقت لآخر بسبب عدم صرف المنح والحوافز والمكافآت.
أزمة مجمع مصر للألومنيوم يمكن حلها إذا ما أرادت الجهات المسؤولة في الدولة، إذ تكمن الأزمة الأساسية في زيادة تكلفة الطاقة، وإنقاذ هذا المجمع الصناعي الأهم في المنطقة يحتاج، إما إلى خفض تكلفة الطاقة ومنح الحكومة الشركة أسعارا تمييزية كما يحدث في معظم دول العالم مع الصناعات الاستراتيجية، وبالتالي توفير الكهرباء بسعر أقل كما يحدث في الهند والصين وروسيا وتركيا وغيرها مع المشروعات المشابهة، والتي توفر الكهرباء بسعر 3 سنتات للكيلو وات في حين توفره الحكومة المصرية بنحو 6.7 سنتات للكيلو وات.
أو أن تسارع الحكومة بضخ استثمارات لإقامة مشروع يوفر طاقة بديلة أو موفرة للمجمع مثل إنتاج الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، أو أن تفرض الدولة رسوماً لحماية الإنتاج المحلي من الألومنيوم من المنافسة الخارجية الشرسة.
الدول يجب ألا تفرط بسهولة في الصناعات الاستراتيجية فيها حتى وإن واجهت مشاكل تعثر طارئة
يواكب هذه الخطوات ضرورة تحديث خطوط الإنتاج، وتنفيذ خطة زيادة الطاقة الإنتاجية بتكلفة 650 مليون دولار، وفتح أسواق خارجية جديدة أمام منتجات مجمع مصر للألومنيوم، والإسراع في تأسيس مصنع جنوط السيارات الذي وعدت به الحكومة من قبل، وقالت إن تكلفته تبلغ 10 مليارات جنيه (نحو 640 مليون دولار).
الدول يجب ألا تفرط بسهولة في الصناعات الاستراتيجية فيها، بل يجب أن تحافظ عليها حتى وإن كانت تحقق خسائر مادية لبعض الوقت، ولنا في الولايات المتحدة وكندا عبرة حين رفضتا بيع مشروعات استراتيجية فيهما، والتفريط بها لصالح مستثمرين أجانب.