يعاني العالم من تخمة في الغاز الطبيعي، ما أدى إلى خفض الأسعار، وظهور توقعات بحدوث وفرة كبيرة في الوقود في أوروبا وآسيا، على الأقل خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
وظهرت تخمة الغاز الطبيعي في حالات نادرة فقط خلال العام الماضي، بعدما أدت الحرب الروسية في أوكرانيا إلى قلب موازين أسواق الطاقة رأساً على عقب، وسارعت أوروبا إلى تأمين أكبر كم ممكن من مصادر الإمداد البديلة.
لكن حالياً تمتلئ المخزونات من كوريا الجنوبية إلى إسبانيا، نتيجة الطقس الشتوي المعتدل في الغالب، والجهود المبذولة لتقليل الاستهلاك. بينما تكافح ناقلات مملوءة بالغاز المسال، الذي ظهر كحل مؤقت لاستبدال تدفقات خطوط الأنابيب الروسية التي جرى قطعها للعثور على مشترين الآن، ويمكن أن تقضي عدة أسابيع وهي هائمة على وجهها دون وجهة محددة في البحر.
وتبدو شركات الغاز الأميركية الأكثر تضرراً من تراجع الأسعار بالنظر إلى كلف الإنتاج، بينما كانت قد سجلت مكاسب قوية خلال طفرة الأسعار العام الماضي على ضوء الطلب الأوروبي الجامح لملء الخزانات في أعقاب توقف الإمدادات الروسية، ما عزز الطموح الأميركي لأن تصبح الولايات المتحدة أكبر مُصدر للغاز المسال في العالم.
ووفق نشرة "أويل برايس" الأميركية المتخصصة في الطاقة، تصل أسعار الغاز الطبيعي حالياً إلى دولارين لكل مليون وحدة حرارية بريطانية مقابل 2.19 دولار للمليون وحدة حرارية بريطانية، يوم الثلاثاء الماضي. وانخفضت أسعار الغاز بنسبة مذهلة بلغت 56% منذ بداية العام الجاري 2023. ولسوء حظ المضاربين لا تزال توقعات الأسعار على المدى القصير قاتمة.
وذكرت نشرة NatGasWeather الأميركية، أن من المرجح أن تتوسع فوائض التخزين في الأسابيع المقبلة، بسبب ضعف الطلب وسط الطقس الدافئ. وينخفض الطلب على الغاز عادة مع انتهاء موسم التدفئة، قبل أن يرفع الطقس الحار احتياجات التبريد في وقت لاحق من الصيف. ثم يذهب الوقود بشكل أساسي إلى مواقع التخزين للتحضير للموسم المقبل، ولكن هذا العام، قد تكتمل جهود إعادة التعبئة في أوروبا بحلول نهاية أغسطس، حسب ما توقع بنك الاستثمار العالمي "مورغان ستانلي".
وقال تالون كستر، محلل الطاقة في "بلومبيرغ إنتليجنس": "يبدو أن هناك تخمة قصيرة الأجل في الغاز يمكن أن تؤدي إلى استمرار الضغط على أسعار الغاز الطبيعي المسال في الأسابيع القليلة المقبلة، ما قد يؤدي إلى خفض أنواع الوقود المعيارية إلى مستوى أدنى قليلاً".
لكن رغم انخفاض أسعار الغاز في أوروبا وآسيا مقارنة بأعلى مستوياتها في العام الماضي، إلا أنها ما تزال أعلى بكثير من متوسط السنوات العشر الماضية، مما يشير إلى مخاوف محتملة من أن التخمة الحالية ربما تختفي. وأشار كستر إلى أن الأسعار قد تكون قريبة من أدنى مستوياتها بالفعل، لأن تكاليف الغاز الأرخص قد تحفز طلباً إضافياً.
تتجه الأنظار حالياً إلى طقس الصيف، لأن أي حرارة شديدة أو حالات جفاف يمكن أن تزيد استهلاك الغاز لأغراض التبريد. ولفت كستر إلى أنه بحلول مستهل الربع الثالث، سيبدأ المستوردون في الاستعداد لفصل الشتاء، ما يزيد من حدة المنافسة على شحنات الغاز الطبيعي المسال. لكن حالياً، تنتشر التخمة على نطاق واسع.
تخزين غاز من إسبانيا الى الصين
لكن شركة "آر بي سي كابيتال ماركتس"، ذكرت في تقرير لها أن خزانات الغاز في إسبانيا، موطن معظم محطات الغاز الطبيعي المسال في أوروبا، ممتلئة بالفعل بنسبة 85%، ما يعني أن السوق الإسبانية يمكن أن تعاني بسرعة من الطاقة الفائضة، وهو ما سيؤثر بدوره على الأسعار الفورية.
أما في فنلندا، فجرى تخفيض فترات استيراد الغاز الطبيعي المسال لموسم الصيف إلى 10 فقط بدلاً من 14، ويرجع ذلك جزئياً إلى الانخفاض المتوقع في الطلب. كما سارعت أوروبا إلى تركيب محطات استيراد الغاز الطبيعي المسال المتنقلة بهدف تقليل الاعتماد على خط الأنابيب الروسي للغاز، وينتظر إضافة مزيد من هذه المحطات خلال العامين الجاري والمقبل.
في السياق نفسه، ارتفعت صادرات المملكة المتحدة من الغاز إلى القارة، حيث تفتقر البلاد إلى مواقع تخزين كبيرة، ويواصل الغاز الطبيعي المسال التدفق بمعدلات قياسية في ذلك الوقت من العام.
شهدت الصين عمليات إعادة تصدير قياسية للغاز الطبيعي المسال وسط انتعاش بطيء بعد رفع القيود الوبائية، كما تحول بعض السفن مسارها بعيداً عن كوريا الجنوبية، وهي مستورد رئيسي آخر للغاز الطبيعي المسال، فيما تعرض اليابان، وهي مشتر كبير، بيع الشحنات لتفادي فائض العرض في الداخل.
في الأثناء انتعش الإنتاج الأميركي، وساهمت الإمدادات الإضافية في انخفاض الأسعار، بينما يكافح فيه المتداولون للعثور على مشترين للشحنات. وفي أميركا الجنوبية، ما يزال الطلب ضعيفاً وسيستمر كذلك حتى تطلق الأرجنتين محطة الاستيراد العائمة الثانية في مايو/أيار المقبل. وقال ليو كابوش، المحلل في شركة "إنرجي أسبكتس"، وفق ما نقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية إن إطلاق المحطة سيتزامن مع حلول الطقس الأكثر برودة في نصف الكرة الجنوبي.
تقويض مكاسب الأميركيين
في الأثناء يمكن أن تؤدي المنافسة المتزايدة في سوق الغاز والتكلفة المرتفعة بالنسبة للمنتجين الأميركيين إلى تقويض مكاسب الولايات المتحدة على طريق تصدر قائمة مصدري الغاز في العالم، خاصة أن تكاليف الإنتاج والأسعار المتراجعة تؤدي إلى إعاقة الإنتاج في بعض أكثر مشاريع تصدير الغاز المسال المخطط لها في الولايات المتحدة، وفق "أويل برايس".
وسجلت مشاريع تصدير الغاز الطبيعي المسال الأميركية والكندية تسارعا على وقع ارتفاع الأسعار العام الماضي، لكن التقلبات الأخيرة على ضوء الطلب المتراجع تؤثر على هذه المشروعات، وفق شركة معلومات السوق الصناعية (IIR).
وكانت شركة الاستشارات الأميركية "وود ماكينزي" قد ذكرت في دراسة مطلع مارس/آذار الماضي، إن الولايات المتحدة تتجه لتجاوز قطر وأستراليا كأكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، بعد استئناف مشروع فريبورت للغاز الطبيعي المسال عملياته في الربيع المقبل.
وأشارت الشركة إلى أن شركات الطاقة الأميركية تعمل على تطوير منشآت لتصدير الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة ومصانع جديدة لتسييل الغاز بقيمة 100 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة.
وحسب الدراسة، تخطط الشركات الأميركية لإنشاء مشاريع للغاز المسال يمكن أن تضيف بين 70 - 190 مليون طن سنوياً إلى كميات الغاز المسال الأميركي الحالية بحلول عام 2030 وتجعل الولايات المتحدة أكبر مورد للغاز الطبيعي المسال في العالم. وتوقعت أن تصل صادرات الغاز الطبيعي المسال الأميركية إلى 89 مليون طن متري سنوياً في عام 2023. لكنها لفتت إلى أن تضخم التكلفة والمنافسة يخلقان تحديات أمام شركات الطاقة الأميركية.
ورغم قلق مصدري الغاز من المنافسة وتراجع الأسعار، إلا أنه لا تزال هناك مخاطر تحدق بالأسواق مرة أخرى، مثل حدوث المزيد من التخفيضات في عمليات التسليم الروسية أو الانقطاعات غير المتوقعة. فالصيانة السنوية المقررة لمنشآت الغاز من أواخر إبريل/ نيسان الجاري حتى الصيف يمكن أن تقيد الإمدادات المفرطة. ويتوقع إلى حد كبير أن يظل المعروض العالمي من الغاز الطبيعي المسال محدوداً لمدة عامين آخرين.
وينعكس ذلك على أسعار العقود الآجلة، والتي سترتفع في الأشهر المقبلة وخاصة في فصل الشتاء، وستظل مرتفعة حتى بداية 2025. وبحسب مذكرة للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية فإن "التوازن في سوق الغاز الأوروبية خلال 2023 أكثر عرضة للمخاطر مما كان عليه في العام الماضي، وأي انقطاع بسيط في الإمدادات يمكن أن تكون له آثار كبيرة".