في مثل هذا اليوم قبل 25 عاماً، استيقظ سكان روسيا على وقع أنباء صادمة عن تعثر بلادهم عن سداد كافة ديونها الخارجية والداخلية وتعويم العملة الروسية الروبل التي فقدت نحو 50% من قيمتها.
وفي الوقت الذي توقفت فيه المصارف عن إجراء عمليات السحب، لا يزال مشهد احتشاد العملاء في طوابير طويلة أمام فروعها في 17 أغسطس/ آب 1998 راسخاً في ذاكرة الروس من الأجيال الكبيرة ومتوسطي العمر، ويحدد طبيعة العلاقة بين المواطن والدولة حتى الآن.
وتتزامن ذكرى الإفلاس هذه المرة مع مواجهة الاقتصاد الروسي أكبر أزمة منذ ذلك الحين، على وقع العقوبات الغربية غير المسبوقة ضد موسكو بسبب حربها في أوكرانيا، وارتفاع سعر صرف الدولار إلى مستويات تلامس عتبة الـ100 روبل، وهو ما اضطر المصرف المركزي الروسي للتدخل بصورة عاجلة عبر رفع سعر الفائدة الأساسية من 8.5% إلى 12% في وقت سابق من الأسبوع الجاري.
أزمة مالية كبرى
مع ذلك، يرى الخبير الصناعي والاقتصادي المستقل ليونيد خازانوف، الذي سبق له العمل محللاً بعدة مؤسسات روسية، أنّ وضع الاقتصاد الروسي بات اليوم أكثر صموداً مقارنة مع ما كان عليه قبل ربع قرن، متوقعاً ألّا تتكرر أزمة مالية كبرى هذه المرة.
ويقول خازانوف، الذي يحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد، في حديث لـ"العربي الجديد": "من وجهة نظري، فإنّ أزمة عام 1998 في روسيا كانت ناجمة عن تضخم الدين العام مجتمعا مع تناقض السياسات النقدية والائتمانية المتبعة وكذلك تلك السياسات في مجال الميزانية، كما جاءت الأزمة المالية الآسيوية في عامي 1997 و1998 وتراجع الأسعار العالمية للهيدروكربونات بمثابة زناد الأزمة في روسيا".
وحول رؤيته للتداعيات طويلة الأجل لأزمة 1998 على السياسات المالية الروسية، يضيف: "اضطرت روسيا حينها للإعلان عن تعثرها عن سداد مستحقات سنداتها السيادية، وسط انهيار سعر صرف الروبل... تدريجياً خرجت بلادنا من الأزمة، لكنها شكلت قاعدة للسياسات المالية المحافظة المتمثلة في تقليص أعباء الديون وزيادة التحويلات الضريبية إلى منظومة الميزانية وتكوين صندوق الرفاه الوطني، وأعتقد أن هذه السياسات أثبتت فاعليتها في ظروف العقوبات الغربية ضد روسيا".
ولا يتوقع خازانوف تكرار أزمة مالية كبرى هذه الفترة، قائلا: "الاقتصاد الروسي اليوم أكثر صموداً مقارنة مع ما كان عليه في عام 1998 وحتى العقوبات لم تتمكن من كسره... صحيح أن الاقتصاد الروسي يعاني من عجز الموازنة، لكنه عجز ليس بتلك الضخامة التي كان عليها قبل 25 عاماً، كما تعمل الحكومة الروسية على إزالة كافة الصعوبات الناشبة على وجه السرعة".
وبحسب التقديرات الأولية الصادرة عن وزارة المالية الروسية، فإنّ عجز الموازنة في النصف الأول من العام بلغ نحو 2.5 تريليون روبل (حوالي 26 مليار دولار وفقا لسعر الصرف الحالي)، مقابل فائض بنحو 2.8 تريليون روبل خلال الفترة ذاتها من العام الماضي.
أزمة ثقة
في 17 أغسطس/ آب 1998، أعلن رئيس الوزراء الروسي آنذاك سيرغي كيريينكو عن تطبيق "مجموعة من الإجراءات من شأنها تطبيع السياسات المالية والميزانية" التي كانت تعني، في الواقع، تعثراً مالياً وتعويم الروبل وتعليق الوفاء بالالتزامات أمام الدائنين الأجانب لمدة 90 يوماً، ووقف التعامل بالسندات السيادية قصيرة الأجل.
وما زاد من خيبة أمل المواطنين أن الإعلان عن تعثر الدولة جاء بعد أيام معدودة من استبعاد الرئيس الروسي آنذاك بوريس يلتسين احتمال انهيار قيمة العملة، وهو ما فاقم فقدان الثقة بين الشعب والسلطة، ضمن سلسلة كاملة من الأزمات عاشتها روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي.
ومن تداعيات أزمة أغسطس/ آب 1998 انهيار قيمة الروبل من 6 روبلات للدولار الواحد إلى 21 روبلاً وما ترتب على ذلك من تآكل قيمة مدخرات المواطنين وإفقارهم، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة أسعار المواد الغذائية بنسبة 63% خلال أشهر معدودة، وارتفاع الدين العام (الخارجي والداخلي) إلى 200% من الناتج المحلي الإجمالي، لتصبح روسيا من أكبر الدول المدينة في العالم. وبحسب تقديرات "اتحاد موسكو المصرفي"، فإن سكان روسيا خسروا ما يعادل 19 مليار دولار جراء الأزمة.
لكن في السنوات التي تلت أزمة عام 1998، تمكنت روسيا من سداد ديونها والتحول إلى لاعب رئيسي في سوق الطاقة العالمية وتكوين احتياطات دولية فاقت 600 مليار دولار بحلول الحرب الروسية في أوكرانيا وقبل إقدام الدول الغربية على تجميد أكثر من 300 مليار منها في سابقة تاريخية لتجميد أصول مصرف مركزي لدولة كبرى.
وفي الوقت الذي تختلف فيه تقديرات لأسباب وتداعيات أزمة 1998، إلا أن ثمة إجماعاً بين خبراء الاقتصاد على أنها حددت ملامح المشهد الاقتصادي الروسي الحالي والذي يتميز بتركيز الحصة الأكبر من الاقتصاد بين أيدي الدولة، وعدم الإقدام على زيادة الدين العام، واستحداث منظومة التأمين على الودائع التي تضمن حقوق عملاء المصارف المتعثرة وغيرها من إجراءات استعادة الثقة في المنظومة المالية والمصرفية للبلاد.
وعلى الصعيد السياسي، شكلت أزمة 17 أغسطس 1998 محطة هامة في الطريق إلى نهاية حكم يلتسين الذي سلم مهامه للرئيس الحالي فلاديمير بوتين، ليلة رأس سنة 2000، ودخول البلاد عصر "رأسمالية الدولة" وزيادة دور الحكومة في جميع القطاعات الاقتصادية، بل السيطرة على بعضها بشكل شبه كامل.