لم يتخيل أحد أن وزير التموين المصري الأسبق، باسم عودة، الذي ارتبطت صورته الذهنية لدى الفقراء بسنابل القمح ورغيف الخبز، سوف يأتي اليوم الذي يلبس فيه البدلة الحمراء انتظاراً لتنفيذ حكم الإعدام بدلاً من أن تكرمه الدولة على إنجازاته.
كان ظهور عودة مفاجئاً للجميع عندما تم اختياره وزيراً للتموين والتجارة الداخلية، في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي. ووزارة التموين هي إحدى اهم الوزارات الاقتصادية والجماهيرية لأن اختصاصاتها تتعلق بالحياة اليومية للمواطنين.
وكان أيضاً أداء الوزير المصري مفاجئاً للشعب والراي العام حيث حقق نجاحات ملموسة في أيام معدودة، فظهرت آثار قراراته وتحركاته في مواجهة الازمات المعيشية من خبز وغاز وسلع تموينية، كما جاء حكم إعدامه مفاجئاً بل وصادماً للجميع.
وعودة عاشق للتفوق حيث كان من الأوائل في الثانوية العامة على محافظته المنوفية شمال العاصمة القاهرة، ليواصل رحلته في كلية الهندسة بجامعة القاهرة (أعرق جامعة مصرية)، ليلفت أنظار كل من حوله بنشاطه الطلابي وتفوقه العلمي، فتم اختياره معيداً بكليته التي درس بها، بعد تخرجه منها وحصل على درجة "الدكتوراه" وتدرج إلى أعلى المراتب الأكاديمية رغم حداثة سنه.
من الثورة إلى اللجان الشعبية
والتحق عودة بثورة 25 يناير عام 2011 منذ بدايتها، وكان من ضمن المناضلين في موقعة الجمل، حيث وقف بجوار شباب يمثل مختلف القوى والمشارب السياسية ليحموا ميدان الثورة (التحرير) بأرواحهم وصمد معهم رغم إصابته في الرأس وانتصروا على فلول وبلطجية الحزب الوطني المنحل، فكانت البداية الفعلية التي أطاحت بالرئيس المخلوع حسني مبارك.
ومن ميدان الثورة انتقل عودة إلى ميدان العمل المجتمعي، حيث شارك مع اللجان الشعبية في محافظة الجيزة التي يسكن بها، ليشارك في مواجهة الأزمات المعيشية التي يعاني منها المصريون جراء تدهور الأوضاع طوال 30 عاماً في عهد مبارك.
فحمل أنابيب غاز الطهي على كتفه ليوصلها إلى الأهالي في منازلهم بالسعر المدعم، كما شارك شباب الثورة واللجان الشعبية في حملات النظافة والمساعدة في توزيع الخبز.
وظل جندياً مجهولاً حتى جاءت أحرج اللحظات عندما تأزم الوضع السياسي والمعيشي في عهد مرسي.
سنابل القمح
واستعانت حكومة رئيس الوزراء آنذاك هشام قنديل به، ليتولى حقيبة وزارة التموين، ويبدأ أقصر وأنجح محطة له في رحلته السياسية.
واستطاع عقب توليه منصبه، أن يحول وزارته إلى خلية نحل، بعدما اختار مجموعة من الشباب ليساعدوه على أداء خطته، كما استفاد من مشاركته في اللجان الشعبية حيث جعلته يشعر بهموم المواطن ومطالبه.
ومن الأمور المهمة التي ساعدته على تحقيق إنجازات ملموسة، محاربته الفساد في وزارته، وإطاحته باللصوص إلى خارجها، وبدأ في دراسة آليات توفر على الدولة المليارات التي كانت تسرقها مافيا الدعم، وأخرى كانت تهدر في استيراد القمح ( حوالي 11 مليار جنيه سنوياً).
ونزل عودة إلى الحقول مع الفلاحين في بداية الموسم العام الماضي، ليشجعهم على زراعته، وليحصد معهم أحلامهم. ولأول مرة يشعر الفلاحون بالاهتمام من الدولة، بعد ان أهملهم الرئيس المخلوع مبارك 30 عاماً.
أراد عودة ان يعيد للقمح المصري مكانته، حيث كانت مصر سلة العالم من هذا المحصول الاستراتيجي، إلا إنها الأن تستورد ما يقرب من 10 ملايين طن قمح سنوياً.
وأطلق عودة مبادرة تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، واتخذ إجراءات لتسهيل توريد المزارعين لأكبر كمية منه لصالح الدولة، وقرر رفع سعر التوريد لتشجيع المزارعين، ونجح في توريد اكثر من أربعة ملايين طن في الموسم الماضي.
وعجز وزير التموين الحالي، خالد حنفي، عن الوصول إلى المستهدف، من شراء القمح المحلي، ولم يتمكن إلا من جمع 3.6 مليون طن، بعد انتهاء موسم الحصاد يوم الخميس الماضي، بنقص حوالي 400 ألف طن، عما تم توريده في عهد عودة.
وقال حنفي، في تصريحات سابقة إنّه سيتم توريد 4.4 مليون طن قمح محلي من الفلاحين بمصر، ثم خفض المستهدف إلى 4 ملايين طن، في ظل ضعف الإقبال، فيما أظهرت بيانات الوزارة جمع 3.6 مليون طن فقط.
الخبز والزيت
كما بدأ عودة خطة ترشيد الدعم وتوفير 11 مليار جنيه مصري، عن طريق تطبيق منظومة الخبز الجديدة بدفع كامل التكلفة للمخابز للحد من تهريب الدقيق، وأدت المنظومة إلى تحسين الخبز وتوفيره في بعض المناطق.
ونزل عودة في حملات يومية بعد صلاة الفجر، ليراقب المخابز ويغلق المخالف منها، والتحم بالجماهير ليتلقى ملاحظاتهم وجهاً لوجه، بدلاً من التقارير الرسمية التي يتلقاها الوزراء وهم في غرفهم المكيفة.
ثم انتقل الوزير الباسم إلى السلع التموينية المدعومة، وأعلن عن حملة "أفضل منتج لأكرم شعب"، وطلب استبدال زجاجات الزيت الرديئة بأخرى من الزيت النقي، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يهتم فيها وزير بجودة المنتج للفقراء الذين أهملتهم الأنظمة المتعاقبة قبل ثورة يناير وبعدها.
كما فتح عودة باب تسجيل منتفعين جدد من بطاقات التموين، لأنه اعتبر ان المواطن من حقه توفير احتياجاته الأساسية والاستفادة من الدعم الحكومي.
ولاقت لمسات الوزير الشاب استحساناً من الخصوم قبل الأصدقاء، وأشادت به مختلف القوى السياسية ووسائل الإعلام التي أشادت بأدائه المميز.
المشهد قبل الأخير بالبدلة الحمراء
وبعد أن أطاح الجيش بأول رئيس مدني منتخب، وبالتالي استبعاد حكومة هشام قنديل، طلبت سلطة الانقلاب من عودة الاستمرار، لكنه رفض إغراء المنصب واعتصم مع المعتصمين في الميادين، وظل معتصماً في ميدان نهضة مصر بجوار كلية الهندسة بجامعة القاهرة التي يعمل بها أستاذاً، حتى استيقظ ذات يوم على صوت رصاص فض الاعتصام، قبل أن يعتقل، يتهم بالقتل بدون دليل. وليصدر القاضي على عودة، حكماً بالإعدام مع آخرين الأسبوع الماضي، لينتظر واحد من انجح الوزراء الاقتصاديين حبل المشنقة.