واصل الجنيه السوداني تراجعه أمام الدولار في السوق السوداء، وسط تفاقم عمليات المضاربة، خلال الفترة الأخيرة. وتبدو الحكومة الانتقالية عاجزة عن مواجهة الأزمات الاقتصادية والمالية، في ظل تحديات كبيرة واجهتها منذ تشكيلها في شهر أغسطس/آب الماضي.
عجز قد يكون طبيعياً نظراً إلى ضعف الاقتصاد السوداني أصلاً، فضلاً عن الكوارث المستجدة عليه والتي لا تستطيع، لا هذه الحكومة ولا غيرها، حلّها في غضون أشهر أو سنوات حتى. فرغم الثروات التي يتمتع بها هذا البلد، فإن الفساد يلتهم جزءاً كبيراً من الثروة الوطنية، كذلك الظروف السياسية منذ انفصال جنوب السودان عن الشمال وخسارة الخرطوم مردود النفط. لذلك يرى كثيرون أنه كان حري بهذه الحكومة أن تخفّض من التوقعات المطلوبة منها اقتصادياً خصوصاً، لكي لا تكون الخيبة كبيرة حيال العجز المنطقي عن تحسين كبير للأحوال الاقتصادية والمعيشية في غضون أربعة أشهر، خصوصاً قبل إلغاء العقوبات الدولية المفروضة على هذا البلد والموروثة من النظام السابق.
ونشطت المضاربة على الدولار، وسط توقعات من تجار عملة بزيادات كبيرة في سعر العملة الأميركية إلى أكثر من 100 جنيه سوداني، خلال الفترة المقبلة، إذا استمر تدهور المؤشرات الاقتصادية. وقال تاجر عملة، رفض ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، إن سعر الدولار ارتفع إلى مستويات قياسية لأول مرة، إذ بلغ 83 جنيها للبيع، أمس، و80.5 جنيها للشراء، في السوق السوداء، في حين استقر السعر في جميع البنوك وشركات الصرافة العاملة في السودان، حيث يخضع لسعر ثابت يحدده البنك المركزي السوداني عند 45 جنيها للشراء، ونحو 45.5 جنيها للبيع. وأضاف التاجر أن سماسرة ومواطنين أحجموا عن البيع لأنهم ينتظرون أسعارا جديدة تزيد من أرباحهم، بينما يتفادى التجار الشراء بأسعار عالية تكبدهم خسائر فادحة حال هبوط سعر الدولار مرة أخرى. وحسب مراقبين، شهدت أسواق العملات ارتباكا واضحا في ظل التخبط الحكومي في التعامل مع الأزمة.
وكان وزير المالية، إبراهيم البدوي، قال في تصريحات صحافية مؤخراً، إن احتياطي البلاد من النقد الأجنبي يكفي لأسابيع، إلا أن الوزير تراجع عن تصريحاته المنسوبة لوكالات أجنبية، نافيا قوله السابق، مؤكدا أن كلامه نقل بشكل غير دقيق.
وتابع أن البلاد تحتاج إلى موارد كبيرة تتراوح بين خمسة وستة مليارات دولار لتنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي الشامل متعدد المسارات، وليس لمعالجة مسار واحد، مضيفا: "لم أصرح إطلاقا بأن الاقتصاد سينهار، إنما قلت إننا نحتاج إلى هذا الدعم لتحقيق الإصلاح الاقتصادي بكل مراحله، وللصرف على استحقاق الموازنة الجديدة".
وعزا اقتصاديون الطريقة التي تُدار بها البلاد اقتصاديا بأنها تسير على خطى النظام القديم في البحث عن الحلول السهلة من دون التفكير في كيفية استغلال الموارد السودانية. وقالوا إن صادرات الحبوب الزيتية وحدها تقدر بحوالي 400 مليون دولار والقطن 108 ملايين دولار، بخلاف صادرات السلع والثروات الأخرى. وأكدت الخبيرة الاقتصادية، سمية سيد، لـ"العربي الجديد"، أنه ما زالت أمام الحكومة الانتقالية فرصة للخروج من الدائرة المظلمة، بالاعتماد على الموارد الحقيقية، وفقا لبرنامج محكم يدعم الإنتاج ويستنهض همة المستثمرين الحقيقيين لا المضاربين وتجار السوق السوداء.
ويعاني السودان من مشاكل اقتصادية ناجمة عن ارتفاع معدلات التضخّم ونقص العملات الأجنبية وشحّ الوقود، مما أدى إلى اشتعال احتجاجات شعبية غير مسبوقة أدّت، في إبريل/نيسان، إلى إطاحة الجيش بالرئيس عمر البشير الذي حكم البلاد طيلة 30 عاماً. وتواصلت الاحتجاجات الشعبية الساخطة حتى تم التوصل إلى اتفاق تم على إثره تشكيل حكومة مدنية انتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، والتي أعلنت عن برامج لحل الأزمات الاقتصادية.
وكشف حمدوك، في تصريحات منتصف الشهر الماضي، عن برامج وأولويات الحكومة المدنية الانتقالية، والتي قال إنها تشمل معالجة الأزمة الاقتصادية وإرساء أسس التنمية المستدامة، مشيرا إلى أن بلاده تعاني من الغلاء والتضخم وتدهور سعر العملة الوطنية والأزمة في المشتقات البترولية وأزمة المواصلات.
وحسب خبراء اقتصاد، ساهم ارتفاع سعر الدولار في موجات الغلاء التي ضربت مختلف السلع والخدمات، وتوقعوا زيادة سعر الدولار إلى أكثر من مائة جنيه. وقال وزير المالية الأسبق المحسوب على نظام البشير، عبد الرحيم حمدي، في تصريح مؤخرا لقناة الشروق المحلية إن الدولار سيتخطى حاجز المائة جنيه، لعدم وجود معالجات حقيقية تقوم بها الأجهزة المختصة في البلاد. ويأتي ذلك في وقت أرجع آخرون الأمر إلى "الدولة العميقة" التي مازالت تعمل في الخفاء وتنفذ أجندة الحكومة السابقة وحزب المؤتمر الوطني. واتهم وزير المالية الحالي صراحة النظام السابق، في تصريحات سابقة، بأنه وراء الأزمة. وقال إنها "الثورة المضادة" تقوم بشراء كميات كبيرة من العملات الأجنبية من السوق السوداء للعملات للمساهمة في تصاعد أسعارها مقابل الجنيه السوداني. ورغم الدعم الذي قدمته دول عربية للخرطوم عقب الإطاحة بنظام البشير لتحسين الوضع المعيشي في البلاد وسيطرة المجلس العسكري السابق على أموال أفراد يتبعون النظام القديم، إلا أن الأوضاع الاقتصادية ما زالت تراوح مكانها إن لم تكن أسوأ. ولم تفلح جهود الحكومة الانتقالية في رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، كما لم تحقق مشاركة وزارة المالية في اجتماعات البنك وصندوق النقد الدوليين تقدما كبيرا في الحصول على دعم وموارد إضافية رغم تأكيد وزير المالية أن موازنة 2020 ستمول من الأصدقاء.
ويؤكد الخبير الاقتصادي، إبراهيم أحمد، لـ"العربي الجديد"، أن تجارة العملات الأجنبية وجدت أرضا خصبة لها في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وعدم وجود حلول في الأفق، بالإضافة إلى تناقض واضح في تصريحات المسؤولين.
وقال أحمد إنه من الطبيعي أن يتحكم كبار التجار في سوق النقد الأجنبي، موضحا أنه رغم سقوط النظام السابق إلا أن نفس التجار ما زالوا يمارسون مهنتهم وهم جزء من المنظومة المالية السابقة، إذ استغلوا الأوضاع المضطربة وعمدوا إلى ترسيخ تجارتهم وفرض إرادتهم عبر السوق الموازية، خاصة أنهم يعملون من وراء ستار ويتخذون بعض صغار التجار في الواجهة.
وأضاف: للأسف ما زال تجار الدولة العميقة ينشطون في الأسواق ويتحكمون في مفاصل الدولة الاقتصادية تحت سمع وبصر الحكومة الانتقالية من دون أن تحرك ساكنا. وأكد أنه رغم وصول دعم مالي من دول عربية، إلا أن الحكومة لم تستطع فك شفرة أزمات الاقتصاد حتى الآن.
وسبق أن أقرت حكومة البشير قانونا للتعامل بالنقد الأجنبي في عام 2018 خلفا للقانون القديم الذي يعود لعام 1981، شمل عقوبات رادعة تصل إلى السجن خمسة عشر عاما أو الغرامة، إلا أنه لم يحدّ من عمليات الاتجار في الدولار. وتواجه العملة السودانية تدهورا كبيرا منذ انفصال جنوب السودان في 2011 وفقدان عائدات النفط، بجانب العجز في الميزان التجاري وارتفاع التضخم. ويعاني السودان من خلل وعجز في الميزان التجاري، وحسب آخر إحصائية حكومية فإن صادرات السودان بلغت 3 مليارات دولار مقابل 9 مليارات دولار واردات، بعجز بلغ 6 مليارات دولار.