من منفاه الباريسي يتحدث سميح شقير في حوار مع "العربي الجديد" عن الفن، والحرب، وتفاصيل أخرى، كانت أشبة بالبوح في هذا اللقاء:
- نبدأ من أغنيتك الجديدة "حلب ست المداين"، لماذا الغناء عن حلب الآن، وبماذا تتميز هذه الأغنية عن أغانيك السابقة؟
حلب اليوم تختزل التراجيديا السورية، ومن الطبيعي أن يكون لها موقع القلب في الأدب والفن المنتمي لوجع الناس. أما ما يميّز هذه الأغنية، فلا أعرف بالضبط، لكنها برأيي امتدادٌ لرسالة الأغنية التي تحاول دائماً أن تلتصق بالواقع، إذ تُمكّن الإنسان الذي يحيا هنا، أن يجد صورته فيها. المميز، باعتقادي، في هذه الأغنية، تطرُّقها إلى المضمون الطبقي الذي تم تغييبه، إذ أنّ الفقراء هم من يدفعون الثمن الأكبر، "واللي عندن قدرة فَلّو/ وحدن الفقرا اللي ظلّوا / حطب لحروب اللي مروا/ ولإيمتا رح نبقى حطب".
- ما الذي أضافته المأساة السورية إلى فنك، وهل شكّل الغناء للثورة السورية إضافة جديدة على مسيرتك الفنية؟
أضافت الثورة لوعيي يقيناً بالشعب وبعظمة تضحياته من أجل حقوقه الأساسية الضائعة. كما تركت الثورة وبداية انطلاقتها السلمية، أجمل المشاعر التي عايشتها طوال عمري، ومازلت أذكر رقص الجموع الأسطوري تحت فوهات البنادق والغناء والرسم، كان يمكن أن تكون من أروع ثورات التاريخ، لو لم تتحالف كل القوى عليها لتنتزع سلميتها جبراً وتغير شعاراتها وراياتها وتسرق منها هذا الألق.
ومن ناحيتي، فقد كنت متفاعلاً بشكلٍ لحظي مع كل ما يجري، وقدمت بإمكانياتي الفردية مجموعة من الأعمال الغنائية التي سُجِّلَت معظمها بأبسط شكل ممكن، نظراً لعدم وجود إمكانية إنتاجية لتسجيلها وإظهارها بالشكل المطلوب، فكانت أغانٍ مثل "يا حيف" و"قربنا يا الحرية" و"صراخكن" و"حمص" و"اشتقنا للشام" و"بياع العنب" و"إن راح البلد" و"حلب" وأغنية "كل الكلام للعدم وبسورية دم" التي غناها الصديق الفنان، علي الحجار، إضافة لوجود عدد من الأعمال الجديدة التي لم أستطع تسجيلها بعد.
- حالياً، مع وصول العنف في سورية إلى سويات مرعبة، هل بقي مكان للأغنية السياسية في الوجدان الثوري، بخاصة بعد تحول قطاعات كبيرة من المعارضة إلى الالتزام الديني؟
برأيي أن الصورة المُقدَّمة لما يجري من خلال الإعلام، تعطي انطباعاً بالشكل الذي تتحدث عنه، ولكني أتلمس صورة أُخرى من خلال تواصلي الشخصي مع الداخل السوري. الوجدان الثوري لم يتنحّ، وهو موجود بالتأكيد، ولكنه في غالبيته غير مؤمن بالسلاح، وكوننا اليوم لا نسمع إلا أصوات الرصاص والمدافع، فلن نستطيع تلمس مظاهر وجود هذا الوجدان، والذي ستجده حاضراً كلما توقفت الأعمال القتالية.
أما المظاهر الدينية المتطرفة فهي مصنوعة وممولة بجدارة من داعمي القوى المتصارعة عسكرياً، وأولها كان النظام. وأعتقدُ أن الأوضاع ستعود إلى وضعها الطبيعي حين يقف هذا التمويل. وبالنسبة لمكان الأغنية السياسية، أعتقد أن الأغاني لن تتوقف من أن تكون ضمير الناس، وهي موجودة وسيلزم أن يخف الضجيج قليلاً ليكون بالإمكان سماعها.
- كيف تقيّم سوية الفنون التي واكبت ربيع الثورات العربية، هل تعتقد أنها غيرت بالمزاج العام، وأفسحت المجال أمام الأغنية الثورية لتكون قريبة من الناس ونبض حيواتهم؟
يبدو أنّ أوّل المتفاجئين بالثورات، كانوا من الفنانين الذين دعوا للثورة طوال حياتهم، وهذه بحد ذاتها مفارقة "ثورية"!، إذ كانوا الأكثر صمتاً وتوارياً عن مسار الأحداث، فرأينا الشباب والشابات الذين لا يمتلكون خبرات سابقة على الأغلب، يندفعون للتعبير بالأغنية وسواها من وسائل التعبير. وبالطبع، ظهر معظم النتاج بشكله الهاوي الذي تنقصه المعارف المتخصِّصة، ولكن هذا النتاج تميّز بالصدقيّة والحرارة، ومن دون إنجاز مهمّ على صعيد البنية. لكن، لابد من الإشارة إلى أن مظاهر التطرف أيضاً أوجدت معادلاتها وثقافتها الخاصّة بالتأكيد. وأعتقد بأننا سنحتاج وقتاً أطول لنلمس متغيراً جوهرياً في الآداب والفنون ما بعد الثورة.
- ألا ترى بأن حاضنة التفاعل مع هذا النوع من الأغاني، أي الثورية، تقلص مع انكماش، إن لم نقل زوال، دور اليسار العربي وتأثيراته على الساحة السياسية العربية؟
لا شك أن اليسار في السابق، لعب دوراً هاماً في تكريس الأغنية المسماة بالملتزمة، ومع الانكماش الذي تتحدث عنه لتأثير اليسار، أنت تتوقع أن تنحسر هذه الأغنية، ولكني أخالفك التوقع، فالأغنية الملتزمة ستستمر برغم من أن اليسار بِنُسَخِه التقليدية، وهياكل معظم أحزابه وقواه، قد فقد القدرة على التأثير، لأنه في الحقيقة، كما أرى على الأقل، قد ترك دوره التاريخي المستند إلى النضال من أجل العدالة الاجتماعية، والدفاع عن الفقراء، ليتمسك بشعار وحيد هو "محاربة الإمبريالية"، وكأن الامبريالية ليست السبب في بقاء تلك الأنظمة المافياوية التي خربت الدولة والمجتمع، والتي يتحالف هذا اليسار معها الآن.
من هنا تأتي العبرة إذ أعتقد أن ثقافة حقيقية بأدواتها المتعددة تلتزم مصالح الفقراء، وتعبر عنهم وتكرس أدواتها للدفاع عن العدالة الاجتماعية، ستكون هي صوت اليسار الحقيقي، ولذلك أتوقع تزايد الاهتمام بهذا النوع من الأغاني ومن باقي التعبيرات الثقافية، المستندة إلى المعنى ذاته، والتي ستسهم بظهور يسار جديد يمكنه التمييز (على الأقل) بأن روسيا الاتحادية اليوم هي ليست الاتحاد السوفييتي