يبقى لجامع السليمانية، نسبة للسلطان سليمان القانوني، خصوصية بين جميع مساجد اسطنبول البالغة، 3269 مسجداً، ولعل الخصوصية لا تتأتى من كونه الأكبر فحسب، بل لكثرة ما قيل قبل بنائه وتوقف بنائه ومن ثم ما حمل من أسرار معمارية، حاول المعماري سنان أن تكون إعجازاً، للحد الذي يقال، إن بعض طلاسمها لم يفكها المهندسون حتى اليوم، ولعل بصمود المسجد رغم نحو مئة زلزال ضربت اسطنبول منذ بنائه، حتى دونما أي تشقق، ما يؤكد تلك الأسرار.
بدأ بناء الجامع على تلة مرتفعة تطل على مضيق البوسفور وخليج القرن الذهبي، بقلب اسطنبول، وقد جاء بأمر من السلطان سليمان، عام 1550 ليستمر سبع سنوات، ليأخذ الجامع الشكل المستطيل القريب إلى المربع، حيث يبلغ طوله 69م وعرضه 63م، وتغطى أرضية الساحة بألواح المرمر تتوسطها نافورة الوضوء، تزينه قضبان برونزية، ويحيط بالساحة ممرات جانبية من جهاتها الثلاث، تعلو هذه الممرات 28 قبة، ترتكز على 24 عمودا، وهي مرتبطة بأقواس صغيرة.
ويبدو لكل شيء بهذا المسجد رمزيته، إذ تعمّد سنان، إظهار كل براعته وفنون العمارة، فالمآذن الأربع ترمز لترتيب السلطان سليمان القانوني الرابع من بين سلاطين الدولة العثمانية بعد فتح إسطنبول، وشُرَف المآذن العشرة، تدُلّ على ترتيب السلطان سليمان العاشر بين سلاطين الإمبراطورية العثمانية.
وصنع المحراب ومنبر الخطيب من المرمر المحفور، ومنبر الواعظ من الخشب وزوايا المحراب محفورة بأوراق ذهبية، إلا أن مقعد المؤذن خصص من المرمر، وهناك أنشئت مقصورة تقوم على أعمدة من رخام خصصت لسليمان القانوني.
لتبقى الحكاية بقبة الجامع الكبيرة، ذات القطر 26.5 مترًا وارتفاع 53 مترًا، وأعمدتها التي أتى كل منها من مكان، واحد من معبد البقاع في وادي البقاع في لبنان، وواحد من مدينة الإسكندرية في مصر ومن قصر طوب كابي وحي الوفاء بإسطنبول، وكأن ثمة رمزية باجتماع الدول الإسلامية على هذا الجامع.
ومن أسرار هذه التحفة التي تعد من أكبر المساحات المعمارية في اسطنبول، أنه تم بناؤه على نحو خاص، بحيث يعكس صدى الأصوات بداخله، من خلال وضع سنان، مكعبات مفرغة من الداخل حول محيط القبة وبنقاط مختلفة من الجامع في الداخل، ويقال إن سنان اختبر توزع صوت الإمام إلى جميع أرجاء المسجد، عبر "النرجيلة" وسماع صوت المياه فيها.
وجاء سنان بالخطاط الشهير، حسن جلبي تلميذ الخطاط المشهور أحمد كاراحصار، ليزيّن الجامع ودونما بزخ، بآيات قرآنية وبأحرف كبيرة، فضلاً عن تزيين جدران الجامع من الداخل، ببلاط إزنيك المزخرف، وزجاج مزين بزخارف تمت بواسطة الحرفي المشهور "صارهوش إبراهيم".
وابتكر المعماري سنان لإنارة المسجد من الداخل عبر 275 مصباحاً عملاقاً، طريقة ذكية لعدم تلوث الجامع بدخان المصابيح، حيث استطاع تجميع الدخان بنقطة واحدة والاستفادة منه في تصنيع أحبار الكتابة التي استخدمها في كتابة فرمانات الدولة.
ولتجنب تجمّع شباك العنكبوت والنمل والحشرات، لجأ سنان لوضع المئات من بيض النعام في أرجاء الجامع المختلفة لأن الحشرات وحتى العقارب تكره بيض النعام.
ومما يحكى عن جامع السليمانية أيضاً، أنه وبعد وضع أساسات الجامع طلب سنان إيقاف البناء لمدة عام كامل لتمكين الأساسات بشكل جيد بعدما مرت على إسطنبول العديد من الزلازل.
لكن شاه إيران عندما سمع بإيقاف البناء ظن أن ثمة أسبابا مادية عطلت بناء الجامع فأرسل كمية من المجوهرات إلى المعماري سنان، فغضب السلطان سليمان القانوني لذلك وطلب من سنان باشا وضع المجوهرات بين الحجارة، وتقول الروايات إن هذه المجوهرات مخفية اليوم تحت إحدى مآذن الجامع.
ولعل السر المعماري البارز، في أنك إن نظرت من كل النواحي في مسجد السليمانية الذي يتسع لنحو 10 آلاف مصل، ستجد لفظ الجلالة "الله" في كل مكان.
ليكتمل ربما المجد لهذا الجامع الذي أعيد ترميمه أخيراً على مدى ثلاث سنوات، ليفتتح خلال عيد الأضحى عام 2010، فهو أشبه بكلية تتضمن منشآت تعليمية عديدة، تعادل في ذلك الزمن جامعة، وفيه حمام، ودار الضيافة الذي يقدم الطعام للفقراء، ومستشفى، ومكتبة شهيرة" مكتبة السليمانية " تتضمن آثارا مكتوبة بخط اليد، والأحبار المستخدمة فيها منشأها من جامع السليمانية، وهي مكتبة مهمة وتجمع الآثار المكتوبة بخط اليد.
وقد تم دفن السلطان سليمان القانوني وأولاده وزوجته "حريم خاتون" داخل حديقة المسجد، ليبقى قبر المعماري سنان قريبا من المسجد وبمكان غير مشهور، ويقال إن سنان أوصى بعدم الاهتمام بقبره معمارياً وعدم دفنه بمكان بارز، كي لا يغدو مزاراً ومحجاً لمعجبيه.