هذه لحظة مقطّرة من فيلم "الأبدية ويوم" (Eternity and a Day) لليوناني ثيودوروس أنغيلوبولوس، الذي توجته السعفة الذهبية في مهرجان "كان" قبل عشرين عاماً.
أراد أنغيلوبولوس أن يكون بطله ألكساندر، (أدى دوره السويسري برونو غانز)، الشاعر الذي لا يعثر على الكلمات منذ سنين. إنه عاطل عن الكتابة. غير أنه لا الشاعر المريض، ولا الطفل الألباني الذي قطع الحدود، وحقل الألغام ليمسح السيارات في شوارع أثينا، عاطل عن الحياة، حين يرفعها الألم إلى ذروتها الشعرية.
الأبدية -بالمعنى الديني- لا تشغل أنغيلوبولوس، شاعر السينما؛ فهو سيموت في 2012 ببساطة حين تصدمه دراجة نارية لشرطي لم يقصد إنهاء حياة عجوز في السادسة والسبعين، كما مات الإيطالي ماسيمو ترويزي، ساعي البريد، بعد أن كتب قصيدته الوحيدة المهداة إلى بابلو نيرودا، وأراد أن يلقيها في تجمع للشيوعيين، فهاجمتهم الشرطة وقتل الساعي ابن الطبقة العاملة ببساطة، ودهمت الممثل ترويزي نوبة قلبية وعمره 41 عاماً، بعد آخر مشهد من الفيلم عام 1994.
الزمن الذي يسبق الأبدية البعيدة عند أنغيلوبولوس هو السينما والمسرح والشعر، وبين هذه الثلاثة هناك الصور المغرمة بتأمل الحياة الضارية والبسيطة كالماء. وفي سينما أنغيلوبولوس دائماً صورة تقف لثوانٍ، مثلما تختار الموسيقى اللحظة الصامتة لتكتمل.
وفي اليوم الأخير كما يفترض، على الشاعر ألكساندر أن يستعد للذهاب إلى المستشفى، لكنه يقرر أخيراً ألا يذهب. ويكون هذا اليوم هو ملعب أنغيلوبولوس السينمائي، وفيه يدفع شاعرَه ذا الوجه الجليل الحيي إلى الماضي، إلى عقد الستينيات مع أصدقائه وأمه، وقبلهم زوجته الجميلة التي ماتت، وبقيت تطل علينا بفستانها الأبيض المنقّط بالأسود.
يخرج الشاعر الوحيد من الماضي إلى الحاضر، مع كلبه، مصحوبين بموسيقى المؤلفة الأثيرة إلى سينمائيته إيليني كارايندرو، ليجد ولداً ألبانياً، تنشأ بينهما رفقة رحيمة، وخائفة. الشاعر بلا مستقبل والولد بأحلام جريحة، ولهما من الأيام هذا اليوم، وربما يوم قادم.
أراد أنغيلوبولوس تقديم توزيع موسيقي جديد على فيلم "التوت البري" لأنغمار بريغمان عام 1957، أو معارضة شعرية لقصيدة فتنته.
بطل "التوت البري" طبيب عجوز، أيضاً يعود بهيئته إلى طفولته، ويعيد معه زوجة ابنه التي كان يثير ضيقها. الرحلة تتكرر في سيارة وطريق وماض وحاضر ومستقبل نستقرئه، نستطلعه لكنه ليس لنا.
الرحلة تتكرر، لكن من المؤكد أن هذا ليس صحيحاً. الشمس أشرقت مرتين، واحدة على فيلم بريغمان وواحدة على أنغيلوبولوس.
في عنوان "الأبدية ويوم"، تبدو أبدية أنغيلوبولوس رد فعل مختلفاً، لما أراده شكسبير في مسرحية "كما تحب". هناك تسأل روزاليند عشيقها أورلاندو كم سيبقى معها؟ فيقول: إلى الأبد ويوماً.
والعاشق ظريف يريد أن يزيد يوماً على الأبد، الذي هو طوال عمره. سيحبها إلى أن ينتهي عمره ويوماً زيادة.
أما يوم أنغيلوبولوس، فهو الحياة التي نريدها لنصنع بالفن الأبد الإنساني. إنه مثل "ألف ليلة وليلة"، كما يضيء لنا عبد الفتاح كيليطو، في كتابه "العين والإبرة"؛ فالأبد المحكي بكل هذا الجمال ليس هناك ليلة ثانية بعد ألف حكاية. ينتهي الكتاب في الليلة الحادية بعد الألف، الليلة الخنثوية، لأنها الوحيدة بلا فجر.
تقول الزوجة الجميلة لشاعرها: "امنحني يوماً، كما لو أنه الأخير". هذه الزوجة ليست ممتهنة للشعر، إلا أن الغربة والمنفى، واحتمال الفقد تجعلها تقول الشعر، كما تدفع لقوله براعم شجرة مرحة وأوراق صفراء في الخريف، وطفل في أول كلامه.
الولد الألباني الذي أدى دوره بإتقان، لا يمكن نسيانه بالخصوص في مشهد رثاء صديقه الميت "سليم". صحيح أن دوره غير مرتجل، إلا أنه من قوة التأثير بدا حقيقياً، كأي سينما، لا تكون حقيقية إلا حين تشبهنا.
لا يُنسى الولد وهو ينادي: "تكلم معنا عن هذا العالم الواسع يا سليم. البحر كبير، وأنا خائف يا سليم. المكان الذي ذهبتَ إليه، يشبه ماذا يا سليم؟".
كما لا تنسى أغنيته تحت البرد "لو أرسلت لك سفرجلة ستجف. لو أرسلت لك تفاحة ستتعفن. لو أرسلت لك قطف عنب سينفرط على الطريق. سأرسل لك دمعة".
يفترق الشاعر والولد الذي أبحرت سفينته، بعد أن ترافقا في يوم ثلجي اشتبكت فيه اللوحات البصرية المائية، بالغناء الشجي، والكلمات الفتيّة التي كان يمنحها الولد للشاعر العجوز. كل كلمة مقابل قطعة نقدية.
أراد المخرج استحضار الشاعر اليوناني دونيسيوس سولوموس (1798 – 1857)، أحد آباء الشعر في اليونان، الذي أخذت قصيدة له نشيداً وطنياً.
هذا الشاعر تربى في إيطاليا ونسي كثيراً من لغته اليونانية الأم. وحين عاد في بدايات القرن التاسع عشر للمشاركة في حرب التحرير من الدولة العثمانية، كانت حصيلته من اللغة اليونانية لا تكفي لقول الشعر، فدار على الناس يطلب منهم كلمات.
المخرج، هو من ابتدع قصة شرائه الكلمات، كل كلمة بقطعة نقدية. هذه اللعبة أنعشت اليوم الوحيد الذي قضاه ألكساندر مع الولد الألباني، وجعلته يذهب في المشهد الختامي إلى البحر، رافضاً دخول المستشفى.
عند البحر يمكنه أن ينادي زوجته، ويسمع نداء أمه الذي لازمها حتى وهي في دار المسنّين، وقد تضررت قواها العقلية، لكنها تنادي ألكساندر من النافذة، أن يأتي إلى مائدة الغداء.
عند البحر يمكن أن يموت الشاعر كما يريد قلبه.
وفي لقاء أخير بدار المسنين، ينحني ألكساندر عند سرير أمه، يسأل الشاعر أسئلته الجارحة، لنفسه ولامرأة لا تعي.
يقول: لماذا على الواحد منّا أن يهترئ بصمت ممزق بين الرغبة والألم. لماذا عليّ أن أقضي حياتي في المنفى؟ لماذا حين أعود إلى بيتي فقط، يمكنني أن أتحدث بلغتي؟
عندما يمكنني أن أجد الكلمات المفقودة، أو أستحضر الكلمات المنسية خارج إطار الصمت.. لماذا في هذه اللحظة بالذات أسمع صدى خطواتي في البيت؟
بكل تأكيد، إن الفضل في خلق هذه السينما، يعود قبل أي شيء إلى حساسية أنغيلوبولوس، الذي لا يجعل حوافر الخيول تقود الملحمة، والذي لا يحب الضوضاء والأصوات المنفرة، حتى وإن صدعت بالحق والحقيقة.