في سابقة لم تشهدها باريس من قبل، استهدف "قوس النصر"، أشهر معالم المدينة، من قبل أفراد هامشيين من مجموعات "السترات الصفراء"، حيث دونوا شعارات على جدرانه وهياكله وشوهوا أحد رؤوس تماثيله وحطموا مكاتبه الداخلية ومزقوا أرشيفه ووثائقه. وهذه الحادثة التي وصفها الباريسيون بـ"البربرية"، لا تزال محط أنظار وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في فرنسا والعالم، وتزداد المخاوف من أن تتكرس بعدها سلسلة من الاعتداءات المشابهة لمعالم تاريخية أخرى، وسط الاحتجاجات العنيفة التي تعيشها باريس.
أكبر نصب في العالم
يقع قوس النصر Arc de Triomphe في الدائرة الثامنة في باريس، وعلى الضفة اليمنى لنهر السين، في الطرف الغربي من شارع حقل الجنة الشهير بـ"الشانزليزيه" في وسط ساحة النجمة التي يطلق عليها اليوم اسم ساحة شارل ديغول. يمسك القوس بشكل أساسي محوراً جغرافياً متمايزاً في الخط المستقيم الذي يربط منطقة La Défense (غرباً) إلى متحف اللوفر (شرقاً)، ويبلغ ارتفاعه 55 متراً وعرضه 45 متراً وبعمق يصل إلى 22 متراً. ويعد أكبر نصب في العالم، حيث على الزائر أن يصعد 284 درجة للوصول إلى شرفة بانورامية توفر إطلالة على باريس بقياس 360 درجة.
يعود بناء النصب إلى عام 1806 بمبادرة من القائد العسكري نابليون بونابرت تمجيداً للجيوش الفرنسية، ولكن توقف العمل به بعد عودة آل بوربون في عام 1815. وتم استئناف أعمال البناء في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر بأمر من الملك لويس فيليب، وتم الانتهاء منها في عام 1836. وشارك في هذا المشروع ثلاثة مهندسين معماريين، هم جان شالغرين (من عام 1806 إلى 1811)، وإل غوست (من 1811 إلى 1814)، وغولام أبيل بلو (من عام 1833 إلى 1836).
رمز وطني وتاريخي
استوحى شالغرين تصميمه من القوس الروماني في تيتوس الذي يعود إلى القرن الأول للميلاد، وخصص له مبلغ مليون فرنك فرنسي حسمت من الميزانية المخصصة للجيش الفرنسي. واختير موقعه على هضبة صغيرة، ليشكل القوس ارتكازاً لخمس جادات رئيسية، أضيفت إليها في ما بعد على يد البارون هوسمان سبع جادات.
وتعد رمزية هذا النصب شديدة الحساسية لدى الفرنسيين عموماً والباريسيين خصوصاً، إذ تحمل جدرانه الداخلية 660 اسماً من القادة العسكريين، و96 من أسماء الانتصارات التي حققوها. وأقيم أسفل القوس بعيد الحرب العالمية الأولى قبر للجندي المجهول بشعلة دائمة تخليداً لذكراه.
هذا الجندي، بحسب الوثائق الفرنسية، قُتل في ساحة الشرف خلال الحرب العالمية الأولى ونقل جثمانه إلى باريس في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 1920، وأصبح رمزاً للتضحية التي قدمها مليون وثلاثمائة وتسعون ألف عسكري فرنسي قتلوا في المعارك. ونقش على الضريح: "هنا يرقد جندي فرنسي مات في سبيل الوطن".
وقد كرم العديد ممن اعتبروا عظماء فرنسا من خلال هذا القوس، حيث كرم بونابرت وزوجته ماري لويز في عام 1810، بالمرور من تحته قبل اكتمال بنائه. وشيع نابليون الأول عبره في الخامس عشر من شهر ديسمبر/ كانون الأول في عام 1840. ومرت من تحته جنازة الكاتب فيكتور هوغو في الثاني والعشرين من مايو/ أيار 1885. وسارت قوات الحلفاء تحته للاحتفال بالنصر في الرابع عشر من شهر يوليو/ تموز عام 1919. كما سارت قوات الحلفاء من تحته بعد الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية في عام 1944.
نقوش ومنحوتات
يتضمن قوس النصر أربع منحوتات، هي: "رحيل المتطوعين"، كما يطلق عليها اسم "البؤساء" (1792)، نحتها فرانسوا رود، و"انتصار" (1810)، نحتها جان بيير كورتوت، و"المقاومة" (1814) و"السلام" (1815)، ونحتهما أنطوان إيتكس. يحتوي القوس على ستة نقوش صغيرة منحوتة على جانبيه، تصور مشاهد من الثورة الفرنسية وعهد الإمبراطورية، وهذه النقوش هي: جنازة فرانسوا سيفيرين مارسو، أحد رموز الثورة الفرنسية ومعركة أبي قير البرية عام 1799، ومعركة جيمباس 1792 ومعركة جسر أركولا 1796 واحتلال الإسكندرية 1798 ومعركة أوسترليتز. أما في الجهة العليا من القوس فنقشت أسماء المعارك التي جرت خلال الثورة الفرنسية.
من شارع إلى أسطورة
أما شارع "الشانزليزيه" الذي يتدرج من أمام القوس، فيعد أحد أشهر الجادات في العالم. شارع كبير تزين أطرافه أشجار باسقة وتتوزع فيه أحدث "بوتيكات" الأزياء والماركات العالمية ومطاعم تشتهر بأطباقها الفاخرة وحانات ومقاه تمتاز بخدماتها الخمس نجوم. وتجري سنوياً في الشارع أحداث العيد الوطني الفرنسي والعرض العسكري المرافق لذلك. فتعبره الدبابات والعربات المدرعة وتمر فوقه أسراب الطائرات في 14 تموز/ يوليو من كل سنة.
ويعود نشوء هذا الشارع الطويل إلى أوائل القرن السابع عشر، حين قررت الملكة الفرنسية ماري دي ميديتشي، زوجة هنري الرابع، تعبيد طريق مزين بالأشجار ممتد إلى حديقة تويلري. وفي أواخر القرن السابع عشر دعي البستاني الفرنسي أندريه لو نوتر لتحديث الشارع. وكلف لويس الرابع عشر بتمديد وتحويل الطريق إلى "جنة من الأشجار". وفي أوائل القرن الثامن عشر أطلق عليه اسم "طريق الشانزليزيه"، حيث يذهب الآلهة اليونانيون والأبطال بعد الموت وفقا الأساطير اليونانية.
وخلال القرن الثامن عشر تم تشييد المباني على طول الطريق وتم بناء قصر الإليزيه، الذي أصبح المقر الرسمي للرئيس الفرنسي بالقرب من الفندق. وكانت المنطقة مكاناً للقصور والمباني الراقية للأغنياء والأرستقراطيين منذ القرن السابع عشر، ولكن بحلول القرن التاسع عشر أصبح الشارع قطباً مهماً للدبلوماسيين وبيوت الأزياء. وفي عام 1828 تم الإعلان رسمياً عن الشانزلزيه ملكية مدنية وكلف المجلس البلدي بإنشاء النافورات ومصابيح الغاز وتحديد مسارات للمشاة.