لا ثيمة محددة للوثائقي التجريبي "سوق الأحد"، الفائز بجائزة "الزيتونة الذهبية" في مهرجان جامعة "الإن دي يو" للأفلام في لبنان، سوى أنه ثيمة نفسه ومبتكرها. أي أنه ينطوي على أصوات مستنطقيه وحكاياتهم ليخلق حدود لغته وإشكالياتها. متعاملاً مع التوثيق كرديف ممتع لا سماجة فيه. فللصورة والصوت مسائل أعمق من كونهما أرشيفاً ومواد تحقيقية، وأعمق من استدلال إلى الرقم والمعلومة. يغلب التجريب على "الوثيقة" البصرية، وما تجاوزهما بالفعل هم سكان السوق وشاغلوه. فصاروا هم عدّة الفيلم وأدواته. ومعهم تحول العنوان الذي انتمى إليه الشريط (16.48 دقيقة) إلى مجرد "اسم علم" يستقطع من مزاجهم رمزيته فحسب.
هويات المدينة
تكاد ثيمات الفيلم تختفي أمام المكان. تتهشم أمامه. تختلط بأغراضه ومآسيه ومرح ساكنيه. فننساها بين الأصوات الآتية من المدينة والمارة والسيارات والأبنية والمساجد والطيور ومكبرات الصوت والماء الراكد في النهر. كأن الشريط مشغول من الصوت لا الصورة. وكأن هذه الأصوات على تضخمها وخفوتها وموتها وانتعاشها لحظة مع أخرى، تردد ما تقاسيه المدينة كحيز أكبر وأوسع. المدينة كمركز وطرف. كمكان عيش وعابر. المدينة بنسيجها العام والخاص. وهنا حساسية الشريط. نسمع لهجات السوق، فلسطينيين وسوريين وطرابلسيين وعكاريين وبيارتة. لهجات تؤدي بقصصها التي تحكى، وظيفة الشريط الأساسية، إن هوية المدينة هي هوية مختلطة عكس ما يقال عنها. والسوق مركزها المتشظي برمزيته كمكان للفقير والغني ولكل هذا التنوع الأنثروبولوجي الذي تختزنه مدينة شمالية، كانت إلى وقت مضى أهم مدن الساحل السوري. فهي تحتضن كل هؤلاء وكل مآسيهم وهروبهم. السوري الهارب من النظام والحرب ولعنات القتل واللجوء، الفلسطيني المهجر والمنسي منذ الجد الأول، القروي الآتي كي يعيش ويتعايش مع مدينة ترأف به رغم فقرها ولا تنبذه كمدن أخرى، بل تجعله أنيساً فيها كجمع الآخرين. الكل هنا سواسية إذاً، كما تقول الأصوات. متساوون بالفقر والمرح، والمأساة والتخفف منها. وأيضاً بالنكتة.
رحلة بانورامية
ويتقصد المخرج الطرابلسي، يحيى مراد، الدعابة معنا على جديتها، وما تحيله من معنى واستدراك. مثيراً الحشرية من خلال تورية الوجوه وسكناتها. نظن كأننا في السوق. نعبر ونتمشى. نرى الجمع بأصواتهم من دون أن نحدد أي واحد منهم يحكي. نتغافل عنها. مشدوهين بما نراه. فالكل حكّاء هنا، عابر وسريع. ومتمهل أيضاً. رحلة الأصوات الممنتجة على صور ووجوه وأشياء مبعثرة هنا وهناك، تعيد تصورنا عن هذا العالم الذي يقصده بعضنا في يوم واحد في الأسبوع. وربما هذا ما يحاول الشريط بحثه معنا كمتلقين. كيف نفهم مسارب هذا العالم وفوضاه؟ منظومته المتراكمة وفلسفة حيواته؟ شخوصه وذاكرتهم؟ وجغرافيته وعلاقته بالمدينة كحيز منبوذ يشبه نبذ بائعيه؟
العالم السفلي
كل هذا سيبدو واضحاً رغم الهشاشة. كأنه ظلال. مثل الصور التي تعرض. بعضها يرتكز على حركة عابثة، وبعضها على لقطة بعيدة وبعضها على مشاهد متلاشية. كأن هذا التصوير بهلاميته مشابه لمجتمع السوق السلفي، من الباعة والمارة والزوار والمتطفلين والشارين والمتفرجين والمتنزهين. هؤلاء الذين قد لا يجدون إلا فسحة الأحد، على ليبراليتها كيوم عطلة يحدده النظام الاقتصادي، منفذاً لهم إلى الحياة نفسها. كهواء ومكان وفرصة تخفف. هذا اليوم الذي قد لا يجد أحد مأوى فيه سوى السوق الذي لا يعرفون فيه أحداً ربما. يتوارون فيه وخلف أصواته الممجوجة كي يكونوا غير مرئيين. متروكين لفضاء لا أحد يأبه للآخر فيه. ولمدينة كطرابلس، يبقى هذا السوق وقبله سوق الجمعة الذي اختفى قرب "التكية المولوية"، محور المشّائين المتخففين من الفقراء، ليس لحاجة الشراء بل أيضاً للتريض والكزدرة كفعل أسبوعي خارج الأيام ورتابتها.
ولهذا التفصيل على صغره، دلالة بارزة من خلال ما ينطق به الباعة أنفسهم. هم أحرار أسياد أنفسهم. لا رئيس ولا مرؤوس. ولا نظام بيع أو أسعار ثابتة. ولا إحراج لأحد. يدفع العابر ما يجده في جيوبه وما يراه البائع على قلته، مفيداً كي يكمل نهاره. كل شيء عبارة عن استكمال نهار وطويه. والآتي؟ لا يهم. فكما يقول أحدهم مستشهداً بعاميته من قصيدة جبران خليل جبران التي غنتها السيدة فيروز: هل فرشت العُشبَ ليلاً وتلحفتَ الفضا؟ كأن كل هذه القناعة أوجدها البعد عن نظام يفرض الموت والمهانة والذل. نظام يسيطر عليه حيتان المال، ويقضم الفقير نفسه في دوامتها. هؤلاء فقط يأكلون من أكتافهم لقمة العيش ويستمرون.
إلا أن ما نستدركه في متابعة الشريط، هو أن لهذا العالم حبالاً أخرى. فهو يشد المدينة إليه ويسحبها إلى ضفة نهرها أبوعلي. مستكشفين سكانه الليليين خارج نهاراته وأيام الآحاد. من عائلات ومنبوذين ومنسيين وهامشيين وحيواناتهم الأليفة وعاداتهم الصغيرة وشظف عيشهم. ومعها يسحب المخرج الشاب، ما يعجز عنه التوثيق، الحكاية المخفية من قصة سوق أبعد ما يكون عن كونه سوق خردة، فالكنوز هنا كثيرة.
هويات المدينة
تكاد ثيمات الفيلم تختفي أمام المكان. تتهشم أمامه. تختلط بأغراضه ومآسيه ومرح ساكنيه. فننساها بين الأصوات الآتية من المدينة والمارة والسيارات والأبنية والمساجد والطيور ومكبرات الصوت والماء الراكد في النهر. كأن الشريط مشغول من الصوت لا الصورة. وكأن هذه الأصوات على تضخمها وخفوتها وموتها وانتعاشها لحظة مع أخرى، تردد ما تقاسيه المدينة كحيز أكبر وأوسع. المدينة كمركز وطرف. كمكان عيش وعابر. المدينة بنسيجها العام والخاص. وهنا حساسية الشريط. نسمع لهجات السوق، فلسطينيين وسوريين وطرابلسيين وعكاريين وبيارتة. لهجات تؤدي بقصصها التي تحكى، وظيفة الشريط الأساسية، إن هوية المدينة هي هوية مختلطة عكس ما يقال عنها. والسوق مركزها المتشظي برمزيته كمكان للفقير والغني ولكل هذا التنوع الأنثروبولوجي الذي تختزنه مدينة شمالية، كانت إلى وقت مضى أهم مدن الساحل السوري. فهي تحتضن كل هؤلاء وكل مآسيهم وهروبهم. السوري الهارب من النظام والحرب ولعنات القتل واللجوء، الفلسطيني المهجر والمنسي منذ الجد الأول، القروي الآتي كي يعيش ويتعايش مع مدينة ترأف به رغم فقرها ولا تنبذه كمدن أخرى، بل تجعله أنيساً فيها كجمع الآخرين. الكل هنا سواسية إذاً، كما تقول الأصوات. متساوون بالفقر والمرح، والمأساة والتخفف منها. وأيضاً بالنكتة.
رحلة بانورامية
ويتقصد المخرج الطرابلسي، يحيى مراد، الدعابة معنا على جديتها، وما تحيله من معنى واستدراك. مثيراً الحشرية من خلال تورية الوجوه وسكناتها. نظن كأننا في السوق. نعبر ونتمشى. نرى الجمع بأصواتهم من دون أن نحدد أي واحد منهم يحكي. نتغافل عنها. مشدوهين بما نراه. فالكل حكّاء هنا، عابر وسريع. ومتمهل أيضاً. رحلة الأصوات الممنتجة على صور ووجوه وأشياء مبعثرة هنا وهناك، تعيد تصورنا عن هذا العالم الذي يقصده بعضنا في يوم واحد في الأسبوع. وربما هذا ما يحاول الشريط بحثه معنا كمتلقين. كيف نفهم مسارب هذا العالم وفوضاه؟ منظومته المتراكمة وفلسفة حيواته؟ شخوصه وذاكرتهم؟ وجغرافيته وعلاقته بالمدينة كحيز منبوذ يشبه نبذ بائعيه؟
العالم السفلي
كل هذا سيبدو واضحاً رغم الهشاشة. كأنه ظلال. مثل الصور التي تعرض. بعضها يرتكز على حركة عابثة، وبعضها على لقطة بعيدة وبعضها على مشاهد متلاشية. كأن هذا التصوير بهلاميته مشابه لمجتمع السوق السلفي، من الباعة والمارة والزوار والمتطفلين والشارين والمتفرجين والمتنزهين. هؤلاء الذين قد لا يجدون إلا فسحة الأحد، على ليبراليتها كيوم عطلة يحدده النظام الاقتصادي، منفذاً لهم إلى الحياة نفسها. كهواء ومكان وفرصة تخفف. هذا اليوم الذي قد لا يجد أحد مأوى فيه سوى السوق الذي لا يعرفون فيه أحداً ربما. يتوارون فيه وخلف أصواته الممجوجة كي يكونوا غير مرئيين. متروكين لفضاء لا أحد يأبه للآخر فيه. ولمدينة كطرابلس، يبقى هذا السوق وقبله سوق الجمعة الذي اختفى قرب "التكية المولوية"، محور المشّائين المتخففين من الفقراء، ليس لحاجة الشراء بل أيضاً للتريض والكزدرة كفعل أسبوعي خارج الأيام ورتابتها.
ولهذا التفصيل على صغره، دلالة بارزة من خلال ما ينطق به الباعة أنفسهم. هم أحرار أسياد أنفسهم. لا رئيس ولا مرؤوس. ولا نظام بيع أو أسعار ثابتة. ولا إحراج لأحد. يدفع العابر ما يجده في جيوبه وما يراه البائع على قلته، مفيداً كي يكمل نهاره. كل شيء عبارة عن استكمال نهار وطويه. والآتي؟ لا يهم. فكما يقول أحدهم مستشهداً بعاميته من قصيدة جبران خليل جبران التي غنتها السيدة فيروز: هل فرشت العُشبَ ليلاً وتلحفتَ الفضا؟ كأن كل هذه القناعة أوجدها البعد عن نظام يفرض الموت والمهانة والذل. نظام يسيطر عليه حيتان المال، ويقضم الفقير نفسه في دوامتها. هؤلاء فقط يأكلون من أكتافهم لقمة العيش ويستمرون.
إلا أن ما نستدركه في متابعة الشريط، هو أن لهذا العالم حبالاً أخرى. فهو يشد المدينة إليه ويسحبها إلى ضفة نهرها أبوعلي. مستكشفين سكانه الليليين خارج نهاراته وأيام الآحاد. من عائلات ومنبوذين ومنسيين وهامشيين وحيواناتهم الأليفة وعاداتهم الصغيرة وشظف عيشهم. ومعها يسحب المخرج الشاب، ما يعجز عنه التوثيق، الحكاية المخفية من قصة سوق أبعد ما يكون عن كونه سوق خردة، فالكنوز هنا كثيرة.