تحفل أفلام وثائقية عربية جديدة بوقائع مثيرة لغضبٍ أو توتر أو ارتباك. فالوقائع مأخوذة من راهنٍ أو ماضٍ، والحكايات منبثقة من جحيمٍ يعانيه أناسٌ لالتزامهم قناعاتٍ يواجهون بها آخرين. الجغرافيا العربية ملبّدة بعنف وتشريد وقتل واستباحة وفوضى. الجريمة قاسية، والأفراد يتعرّضون لها فيغيبون في الموت أو الهجرة أو المرض أو الهيام على الحدّ الأقرب للجنون. التاريخ العربي مليء بلحظات كهذه، لن تكون كلّها منصاعة لبطش سياسي وأمني، بل لقسوة اجتماعية وثقافية أيضًا.
هذه مسائل تعكسها وثائقيات عربية مُنتَجة حديثًا. الحرب الأسديّة على شعبٍ وبلدٍ حاضرة في "فوضى" لسارة فتّاحي. لكنه حضور موارب، يظهر في كلام وانفعال ومسار يكشف الفعل الجُرمي بجمالية سينمائية باهرة. تداعيات "الثورة الليبية" فادحة، في "حقول الحرية" لنزيهة العريبي، إذْ تُحارَب شابات ليبيات بعنف اجتماعي ـ ديني لأنهنّ يُشكِّلن فريقًا رياضيًا لكرة القدم. الفساد والاهتراء الإداريان يُسبِّبان موتًا لأبرياء، لأن إهمالاً يمارسه مسؤولو السكك الحديدية في تونس يجعل اصطدام قطارات بسيارات معتادًا، ومن يجتهد لتصحيح الوضع يحاكَم ويُطرَد من عمله، وهذا مُصوَّر في "عالسكّة" لأريج السحيري.
الراهن العربي لن يكون أقلّ عنفًا وفوضى وتزمّتًا من ماضٍ قريب. "عندما كان العرب يرقصون" لجواد رحيب، يعكس شيئًا من تشابه الأزمنة في مدنٍ عربية وأجنبية يُقيم فيها عربٌ، انطلاقًا من نظرة الاجتماع إلى الرقص، إنْ تمارسه نساء أو رجال.
الوثائقيات حادّة في مقاربتها قسوة الواقع، وبعضها باهرٌ في سينمائيته الجميلة. "فوضى" مبني على سردٍ تأملي لحكايتين تتكاملان في مضمونٍ غارقٍ في الفعل الجُرمي للنظام الأسديّ. "حقول الحرية" و"عالسكّة" و"عندما كان العرب يرقصون" تلتقي في خليط الواقعيّ بالمتابعة المباشرة للحكايات وسياقاتها وشخصياتها. لكن المشترك بينها كلّها كامنٌ في أنها مرايا بيئات وأناسٍ في أزمنة الغليان الملتبس، والتبدّلات الغامضة؛ وفي أن الهزائم فردية والجماعات أقدر على سرقة الفرح من أفئدة المهزومين. التحدّي سلوك يتمتّع به أفرادٌ يُقارعون ظلمًا فينكسرون أو يُكملون دربًا مليئًا بألغامٍ ومطبّات، لأنهم يختارون القناعة الذاتية بدلاً من الانصياع لفكر الجماعة. والمنكسرون، إذْ يرضخون لسطوة البطش، يُكملون عيشًا مضعضعًا ويحاولون إيجاد فسحة أمل في مناخ يملأه الضباب.
أما السينما، فأجملها في "فوضى"، وأقدرها على التأثير متمثّلة بـ"عندما كان العرب يرقصون"، وأفضلها في خلق ارتباك وطرح تساؤلات ظاهرةٌ في "عالسكة" و"حقول الحرية". لكن كلّ فيلم منها يُثير نقاشًا يبدأ بالسينمائي ويمتدّ إلى الإنساني والأخلاقي والاجتماعي، في جغرافيا ملتهبة، وبعض الجغرافيا يستمد غليانه من تاريخ عالق في راهنٍ مضطرب.