قدّم شاهين آلة العود بأسلوب خاص، يأخذ من السابقين من دون أن تنمحي شخصيته الفنية المستقلة، التي تظهر في أسلوب عزفه. كما اشتهر بأنه من تلك الثلة التي حرصت على تعليم الأجيال الجديدة فنون عزف العود، فأعطى التعليم جزءا كبيرا من وقته وجهده، وتخرج على يديه عدد من العازفين المحترفين، وقد كان اللقاء معه فرصة للاطلاع على ظروف تكوينه الفني، ومساره في التعلم والتعليم، ورحلته الفنية التي بدأها في سن مبكرة.
في حي كليوباترا بالإسكندرية ولد حازم شاهين عام 1978، في بيت ينحاز إلى أفكار اليسار، ويتردد عليه فنانون وأدباء ورسامون وشعراء، وكان في مقدمة الزوار مطرب اليسار العربي الأول، الشيخ إمام عيسى، الذي أبهر بعوده وطريقة غنائه قلب الفتى حازم، فبعد أن اهتم لفترة بالرسم، ثم الإيقاع والطبلة، وجد في نفسه ميلا شديدة إلى تعلم العزف على العود.
يقول، في حديثه إلى "العربي الجديد": "أردت شراء آلة، ولم تكن الإمكانات المادية للأسرة تسمح بشراء عود، بالرغم من أن الوالد يعمل مديرا بـ"القوى العاملة"، وبالرغم من أن ثمن العود المطلوب لم يكن يجاوز 120 جنيها مصريا. وبدأت الادخار من مصروفي، لكن بعد عام كامل لم "أحوش" إلا 50 جنيها.. وهنا قررت الأسرة تنظيم "اكتتاب" لجمع المبلغ المتبقي، وتحققت الأمنية بشراء آلة عود".
يواصل حازم: "أحضر لي والدي مدرسا ليعلمني العزف. وبعد أول حصة قرر المدرس أني لا أصلح، ولا أملك موهبة، واقترح أن أختار لعبة رياضية لأشغل بها وقتي، لكني طالبت والدي بأستاذ آخر، وقلت لأسرتي: لو قرر المدرس الجديد أني غير موهوب نعتمد قراره.. فأحضروا لي أستاذ عود مهما ومعروفا اسمه محمد عفيفي، كان يشرف على تحفيظ كورال فرقة الإسكندرية للفنون الشعبية، فذهبت إليه واختبرني، فقال لوالدي إني موهوب جدا، ومن شدة إعجابه قرر أنه سيعلمني مجانا، وكان يأتي إلى منزلنا ويصعد إلى الدور الرابع. ووقتها كنت أفكر في مصيري لو أنني استسلمت لرأي المدرس الأول".
التحق شاهين بمعهد الموسيقى العربية الثانوي في الإسكندرية، فتعرف على أستاذ كبير يدرس هناك هو عبد المنعم عرفة. فاهتم به كثيرا إلى أن تخرج والتحق بمعهد الموسيقى بالقاهرة. يقول شاهين: "هناك تبناني ممدوح الجبالي، وكان سببا لمعرفتي بالموسيقي وعازف الكمان عبده داغر. استلزمت الظروف الجديدة الانتقال إلى القاهرة عام 1996، وبالفعل، تخرجت عام 1999، والتحقت ببيت العود العربي، الذي يرأسه ويديره الفنان نصير شمة".
يحمل حازم شاهين تقديرا كبيرا لبيت العود يقول: "هناك عرفت لأول مرة معنى صولويست عود، فبعد أن تخرجت من معهد الموسيقى، لم يعجبني الوسط الذي يعمل فيه العازفون، فجلست في المنزل، إلى أن أخذني عازف القانون صابر عبد الستار إلى نصير شمة، وعزفت أمامه، فقال: ستكون معي وسأقدمك كصولويست.. ذهبت إلى بيت العود، وكنت قد عملت مع عبده داغر. أصبحت أتردد على بيت العود وعم عبده. البيت كان فارقا معي ويعد مرحلية مفصلية في حياتي. تعلمت تقنيات جديدة، وكان حفل تخرجي من البيت أول حفلة أحييها وحدي، أمام أساتذة كبار، من معهد الموسيقى. ثم كان تدريسي خمس سنوات في البيت سببا في كل علاقاتي الفنية بعد ذلك".
نسأل شاهين: لكنك تدرس بطريقة مختلفة عن طريقة نصير شمة. يجيب: "بالفعل، لم أكتف بطريقة نصير في بيت العود.. كنت أعلم بأسلوبي، واهتممت بالمدرسة المصرية، وتقنياتها، ودرست عددا من مقطوعات كبار العازفين المصريين".
يرى شاهين أن كثيرا من خبراء العزف بالطريقة المصرية لا ينقلون تقنيات العزف لتلامذتهم، ويتعاملون مع خصائص الأسلوب المصري باعتبارها أسراراً، ويرى أن "المنافسة" هي السبب الرئيس لهذا التعامل، لأن هذه الطريقة في العزف وخصوصية الريشة الغنائية و"العُرب" عندما يتقنها عازف موهوب فإنه يخلق بها منافسة شديدة.
ينظر شاهين إلى مؤسسات التعليم الموسيقي الرسمية بعين ناقدة، وبرأيه أن الدراسة فيها تتسم بقدر من العشوائية، وتفتقد إلى منهاج واضح. لكن بالرغم من ذلك، يشير شاهين إلى جهود كبيرة يبذلها بعض كبار الأساتذة، مع التأكيد على أن التعلُّم لا بد له من جهد شخصي. يضيف: "صاحب الموهبة لا ينتظر على نفسه، وأنا أجرب الطلاب ثلاثة أشهر، بشرط التمرين ساعتين يوميا، فالتمرين هو السبيل الوحيد للتطور والإنجاز".
يرى شاهين أن الفقر في أساليب التعليم، والتركيز على السلالم دون المقامات، سببه الرئيس ضعف المشايخ. يقول: "زمان، كان عندنا الشيخ علي محمود، ومحمد رفعت ومصطفى إسماعيل. أظن مصطفى إسماعيل كان يمكن أن يكون مغنيا كبيرا. هو فنان متمكن. لكن مع الأسف الغناء المشيخي انتهى.. وانعكس هذا على العازفين، ولن يعود العزف المقامي إلا بعودة الشيوخ".
يلتقي شاهين بطلابه في المبنى التاريخي لمعد الموسيقى العربية، ويحب مسرح هذا المبنى. يقول: "أشعر فيه بأروح الكبار الذين قدموا فنهم على خشبته، فهنا غنت أم كلثوم وعبد الوهاب وزكريا وفتحية أحمد، وعزف القصبجي والسنباطي، ومن قبلهم أمين بك المهدي.. المكان يعطيك من روحه".
سألنا شاهين عن أعواده، ليشير إلى عدد منها مبثوثة في أرجاء منزله، وعدّد عشرة أعواد يحتفظ بها. وقد لاحظنا أن معظم تسجيلاته جاءت على عود ذي سبعة أوتار، يوضح: "عزفت على عود ستة أوتار، ثم حذفت وتر جواب الجهاركاه وركبت وتر قرار راست.. ثم استخدمت عوداً سبعاوياً. عدد الأوتار في ذاته ليس مهما، وإنما المهم هو مدى الاحتياج إلى هذه الأوتار، وحسن توظيف المدى الموسيقي الذي تمنحه. أحب أعوادي كلها.. أصادقها.. وإذا جاءني عود جديد ولم أصادقه أتخلص منه".
حديث الأعواد أخذنا إلى تجربة شاهين في التلحين، فقال: "لست ملحنا، فقط كنت أؤلف موسيقى، وبعض هذه الموسيقى وضعتها على كلمات لصلاح جاهين أو محمود درويش أو فؤاد حداد..والدي كان يحب الشعر ويلقي قصائد لكثير من الشعراء. صوتي كان أفضل، وأُجهد جدا أثناء الثورة، لأني كنت أغني في الشارع. الغناء أفادني في عزفي لأبعد الحدود.. الحنجرة البشرية هي أعظم قدوة للعازف".
كان تأسيس فرقة إسكندريلا عام 2005 سبباً لاتساع شهرة حازم شاهين، فقد حققت الفرقة نجاحا كبيرا، ولاقت إقبالا من الشباب. سألنا حازم عن ظروف تأسيس الفرقة. يجيب: "أسسنا إسكندريلا لتقديم بعض أعمال سيد درويش والشيخ إمام وزياد رحباني، واختيارنا لدرويش وإمام لم يكن لأسباب سياسية، كما يظن كثيرون، بل كان لأسباب فنية صرفة.. اعتبرنا أن أعمال درويش وإمام تمثل ثورة فنية. وقدمنا الأداء الجماعي التعبيري للشيخ سيد درويش. حققنا شهرة كبيرة بعد الثورة، لأننا قدمنا للجمهور فن له مصداقية؛ فجمهورنا عرفنا قبل الثورة، وعرف خطنا".
يضيف: "لم نركب الموجة. الشريحة الأكبر من الجمهور عرفتنا بالأغاني الثورية. فلما عدنا لأغان غير ثورية لم يتقبلها الجمهور كثيرا. ومع الأسف فإن ظروفا كثيرة تمنع التقاء أعضاء إسكندريلا: سفر أو انشغال أو التمويل. أيضا الجمهور يريدك كما أنت. لا يحب التغيير. فالفرقة عندها مشكلة، وجمهورها عنده مشكلة. وظروف العرض تواجه مشكلة".
نعود لنسأل حازم شاهين: لكن الجمهور يستغرب هذا الاسم، فلا هو إسكندرية ولا هو سندريلا. من أين أتيتم به؟ يقول ضاحكا: "اسم إسكندريلا كان عنوان أوبريت لخميس عز العرب، قدمه في قصر ثقافة الأنفوشي بالإسكندرية. وكنت أنا وبعض الأصدقاء منهم طارق عبد الله كونا فرقة بنفس الاسم مصادفة. وعرفت أن خميس زعلان، فسألت طارق فأكد لي أن اسم أوبريت عز العرب يسبق فرقتنا فاتصلت به، والرجل تفهم وسمح لنا باستخدام الاسم".
يلاحظ جمهور حازم شاهين أنه لا يقدم من تراث سيد درويش إلا بعض الأغنيات المسرحية، ذات النفس النقدي الاجتماعي، ولم يقترب يوما من الأعمال الكلاسيكية للشيخ سيد كأدواره العشرة وموشحاته المميزة.
سألناه عن السبب، ليجيب من دون تردد: "لم نقدم كلاسيكيات سيد درويش لأن إمكانياتنا لا تسمح. هذه الأعمال تحتاج أصواتا قادرة ومدربة.. حتى أغاني إمام التي قدمتها هي الأغاني التي سمعتها مباشرة من الشيخ، فقد كان حضوره طاغيا، وتصدر عنه طاقة عجيبة، وإلى اليوم لا أكاد أقدم غير هذه الأعمال، لأن تأثيرها كان كبيرا جدا على نفسي. وفي السنوات الأخيرة اهتممت بأشعار فؤاد حداد، فلحنت أمسية بعنوان لازم تعيش المقاومة، فقدمناها بفرقة إسكندريلا، وبدأنا في إدخال أغان من ألحاني وأغان لشادي مؤنس الذي بدأ في التلحين".
يؤمن شاهين بضرورة مواكبة العصر فنيا، لكنه يقف على أرض صلبة من الاهتمام بتراث الكبار السابقين، يعتبر أن محمد القصبجي وفريد الأطرش يمثلان روح الآلة. ويعترف بأنهما كانا صاحبي التأثير الأكبر في نفسه وفي أسلوب عزفه.
يقول: "نحن نعمل في المساحات التي فتحها لنا القصبجي.. هو هضم تاريخ الآلة قبله، وقدمه لنا بطريقته الخاصة.. أعتبر فريد الأطرش مؤلفا للتقاسيم.. لا تجد تقاسيم حفظتها الناس كما حفظت تقاسيم فريد، هو موسيقار عملاق، وهو من أعاد للعود عصره الذهبي، واستعاد للآلة جماهيريتها الكبيرة، هذا ليس إنجازا بسيطا.. لذلك فإن الجماهير العادية تعتبره أعظم عازف، وتوجته ملكا للعود. بالطبع أحب السنباطي وعبد الوهاب وجورج ميشيل.. لكن كلهم أخذوا من القصبجي.. هو بحر وغيره أنهار.. لا يمكن تعلم العود دون الاستفادة من القصبجي وفريد".
بالرغم من أن حازم بدأ رحلته الدراسية الموسيقية مبكرا، وتخرج من معهد الموسيقى العربية ثم بيت العود العربي، إلا أنه يعتبر أن لقاءه بعازف الكمان عبده داغر كان فارقا ومفصليا في مسيرته التعليمية.
يقول: "استفدت من داغر كثيرا.. لقد غير أسلوبي في العزف. عنده دائما تركيز على تصفية الحرف. كان يمر وقت طويل على أداء حرف واحد. هو عازف وأستاذ وخبير كبير جدا. يختار حرفا واحدا يملأه بالعزف بطرق مختلفة. تسمع الحرف فتشعر أنه يملأ الكون. هو مخترع تمارين الحرف الواحد. ويعتمد على التلقين المباشر. كان يعزف أمامه عازفون كبار ومشهورون. ومجرد ما يشد قوس الكمان نشعر أن الجو تغير.. كأنه متصل بالسماء".
يرى شاهين أن أي مقطوعة موسيقية يمكن أن نحولها إلى تمرين، لكن بمستويات مختلفة. يعتمد هذا الأسلوب مع من يدرسهم، ويوضح: لونغا رياض مثلا ندرسها بـ 10 طرق، مع حرص أن يكون المتلقي معبرا عن نفسه، لا أجعله نسخة مني. كل دارس عندي له شخصيته، ولا يشبه طالب طالبا آخر، إلى درجة أن من يستمع إليهم لا يظن أنهم تلاميذ لأستاذ واحد. أنا أهتم أولا بضبط يد العازف، ثم أنتقل معه إلى تمارين أعقد، وبعد مرحلة من التقدم أدرس السماعيات والبشارف والدولايب".
نسأله: إلى من تستمع من المطربين؟ يقول: "أحب كل أشكال الغناء الصادق. أرفض الادعاء والكذب.. أحب أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز.. وأحترم كل الأشكال الغنائية التي تعبر بصدق عن أصحابها".
تعددت رحلات شاهين إلى الخارج، سواء بمفرده لعرض فنه في العزف العود، أو مع فرقة إسكندريلا لتقديم أعمالها المعروفة، فزار فرنسا وإيطاليا وألمانيا ولبنان ولندن وأسكتلندا وسورية والأردن وتونس والبحرين والكويت.